فصل: المسألة السادسة عشرة: (في نسخ ما يتوقف عليه صحة العبادة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ***


الباب السابع‏:‏ في الظاهر والمؤول

وفيه ثلاثة فصول‏:‏

الفصل الأول‏:‏ في حدهما

فالظاهر في اللغة هو الواضح قال الأستاذ والقاضي أبو بكر لفظه يغني عن تفسيره وقال الغزالي هو المتردد بين أمرين وهو في أحدهما أظهر وقيل هو ما دل على معنى مع قبوله لإفادة غيره إفادة مرجوحة فاندرج تحته ما دل على المجاز الراجح ويطلق على اللفظ الذي يفيد معنى سواء أفاد معه إفادة مرجوحة أو لم يفد ولهذا يخرج النص فإن إفادته ظاهرة بنفسه ونقل إمام الحرمين أن الشافعي كان يسمي الظاهر نصا وقيل هو في الاصطلاح ما دل دلالة ظنية إما بالوضع كالأسد للسبع المفترس أو بالعرف كالغائط للخارج المستقذر إذ غلب فيه بعد أن كان في الأصل للمكان المطمئن من الأرض والتأويل مشتق من آل يؤول إذا رجع تقول آل الأمر إلى كذا أي رجع إليه وما آل الأمر مرجعه‏.‏

وقال النضر بن شميل إنه مأخوذ من الأيالة وهي السياسة يقال لفلان علينا إيالة وفلان أيل علينا أي سائس فكان المؤول بالتأويل كالمتحكم على الكلام المتصرف فيه وقال ابن فارس في فقه العربية التأويل آخر الأمر وعاقبته يقال ما آل هذا الأمر مصيره واشتقاق الكلمة من الأول وهو العاقبة والمصير واصطلاحا صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله وفي الاصطلاح حمل الظاهر على المحتمل المرجوح وهذا يتناول التأويل الصحيح والفاسد فإن أردت تعريف التأويل الصحيح زدت في الحد بدليل يصيره راجحا لأنه بلا دليل أو مع دليل مرجوح أو مسا وفاسد‏.‏

قال ابن برهان وهذا الباب أنفع كتب الأصول وأجلها ولم يزل الزال إلا بالتأويل الفاسد وأما ابن السمعاني فأنكر على إمام الحرمين إدخاله لهذا الباب في أصول الفقه وقال ليس هذا من أصل الفقه في شيء إنما هو كلام يورد في الخلافيات واعلم أن الظاهر دليل شرعي يجب اتباعه والعمل به بدليل إجماع الصحابة على العمل بظواهر الألفاظ وإذا عرفت معنى الظاهر فاعلم أن النص ينقسم إلى قسمين أحدهما يقبل التأويل وهو قسم من النص مرادف للظاهر والقسم الثاني لا يقبله وهو النص الصريح وسيأتي الكلام على هذا في الباب الذي بعد هذا الباب‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ فيما يدخله التأويل

وهو قسمان‏:‏

أحدهما أغلب الفروع ولا خلاف في ذلك والثاني الأصول كالعقائد وأصول الديانات وصفات الباري عز وجل وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلاثة مذاهب‏:‏

الأول‏:‏ أنه لا مدخل للتأويل فيها بل يجري على ظاهرها ولا يؤول شيء منها وهذا قول المشبهة‏.‏

والثاني‏:‏ أن لها تأويلا ولكنا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن التشبيه والتعطيل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏}‏ قال ابن برهان وهذا قول السلف قلت وهذا هو الطريقة الواضحة والمنهج المصحوب بالسلام عن الوقوع في مهاوي التأويل لما لا يعلم تأويله إلا الله وكفى بالسلف الصالح قدوة لمن أراد الاقتداء وأسوة لمن أحب التأسي على تقدير عدم ورود الدليل القاضي بالمنع من ذلك فكيف وهو قائم موجود في الكتاب والسنة‏.‏

والمذهب الثالث‏:‏ أنها مؤولة قال ابن برهان والأول من هذه المذاهب باطل والآخران منقولان عن الصحابة ونقل هذا المذهب الثالث عن علي وابن مسعود وابن عباس وأم سلمة قال أبو عمرو بن الصلاح الناس في هذه الأشياء الموهمة للجهة ونحوها فرق ثلاث‏:‏ ففرقة تؤول وفرقة تشبه وثالثة ترى أنه لم يطلق الشارع مثل هذه اللفظة إلا وإطلاقه سائغ وحسن قبولها مطلقة كما قال مع التصريح بالتقديس والتنزيه والتبري من التحديد والتشبيه قال وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وسادتها واختارها أئمة الفقهاء وقادتها وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ولا أحد من المتكلمين يصدف عنها ويأباها وأفصح الغزالي في غير موضع بهجر ما سواها حتى ألجم آخرا في إلجامه كل عامل وعامي عما عداها قال وهذا كتاب إلجام العوام عن علم الكلام وهو آخر تصانيف الغزالي مطلقا حث فيه على مذهب السلف ومن تبعهم‏.‏

قال الذهبي في النبلاء في ترجمة فخر الدين الرازي ما لفظه‏:‏ وقد اعترف في آخر عمره حيث يقول لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ ‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب‏}‏ واقرأ في النفي ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي انتهى‏.‏

وذكر الذهبي في النبلاء في تجرمة إمام الحرمين الجويني أنه قال ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقدا اتباع سلف الأمة هكذا نقل عنه صاحب النبلاء في ترجمته وقال في موضع آخر في ترجمته في النبلاء إنه قال ما لفظه اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السلف انتهى‏.‏

وهؤلاء الثلاثة أعني الجويني والغزالي والرازي هم الذين وسعوا دائرة التأويل وطولوا ذيوله وقد رجعوا آخرا إلى مذهب السلف كما عرفت فلله الحمد كما هو له أهل وقال ابن دقيق العيد ونقوله في الألفاظ المشكلة إنها حق وصدق وعلى الوجه الذي أراده الله ومن أول شيئا منها فإن كان تأويله قريبا على ما يقتضيه لسان العرب وتفهمه في مخاطباتهم لم ننكر عليه ولم نبدعه وإن كان تأويله بعيدا توقفنا عليه واستبعدناه ورجعنا إلى القاعدة في الإيمان بمعناه مع التنزيه وقد تقدمه إلى مثل هذا ابن عبد السلام كما حكاه عنهما الزركشي في البحر والكلام في هذا يطول لما فيه من كثرة النقول عن الأئمة الفحول‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ في شروط التأويل

الأول أن يكون موافقا لوضع اللغة أو عرف الاستعمال وإعادة صاحب الشرع وكل تأويل خرج عن هذا فليس صحيح الثاني أن يقوم الدليل على أن المراد بذلك اللفظ هو المعنى الذي حمل عليه إذا كان لا يستعمل كثيرا فيه الثالث إذا كان التأويل بالقياس فلابد أن يكون جليا لا خفيا وقيل أن يكون مما يجوز التخصيص به على ما تقدم وقيل لا يجوز التأويل بالقياس أصلا والتأويل في نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏ قد يكون قريبا فيترجح بأدنى مرجح وقد يكون بعيدا فلا يترجح إلا بمرجح قوي ولا يترجح بما ليس بقوي وقد يكون متعذرا لا يحتمله اللفظ فيكون مردودا لا مقبولا وإذا عرفت هذا تبين لك ما هو مقبول من التأويل مما هو مردود ولم يحتج إلى تكثير الأمثلة كما وقع في كثير من كتب الأصول‏.‏

الباب الثامن من المقصد الرابع‏:‏ في المنطوق والمفهوم

وفيه أربع مسائل‏:‏

المسألة الأولى‏:‏ في حدهما

فالمنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق أي يكون حكما للمذكور وحالا من أحواله والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق أي يكون حكما لغير المذكور وحالا من أحواله والحاصل أن الألفاظ قوالب للمعاني المستفادة منها فتارة تستفاد منها من جهة النطق تصريحا وتارة من جهته تلويحا فالأول المنطوق والثاني المفهوم والمنطوق ينقسم إلى قسمين‏:‏ الأول ما لا يحتمل التأويل وهو النص والثاني ما يحتمله وهو الظاهر والأول أيضا ينقسم إلى قسمين‏:‏ صريح إن دل عليه اللفظ بالمطابقة أو التضمن وغير صريح إن دل عليه بالالتزام وغير الصريح ينقسم إلى دلالة اقتضاء وإيماء وإشارة فدلالة الاقتضاء هي إذا توقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه مع كون ذلك مقصود التكلم ودلالة الإيماء أن يقترن اللفظ بحكم لو لم يكن للتعليل لكان بعيدا وسيأتي بيان هذا في القياس ودلالة الإشارة حيث لا يكون مقصودا للمتكلم والمفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة فمفهوم الموافقة حيث يكون المسكوت عنه موافقا للملفوظ به فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب وإن كان مساويا له فيسمى لحن الخطاب‏.‏

وحكى الماوردي والروياني في الفرق بين فحوى الخطاب ولحن الخطاب وجهين‏:‏ أحدهما أن الفحوى ما نبه عليه اللفظ واللحن ما لاح في اللفظ وثانيهما أن الفحوى ما دل على ما هو أقوى منه واللحن ما دل على مثله‏.‏

وقال القفال أن فحوى الخطاب ما دل المظهر على المسقط واللحن ما يكون محالا على غير المراد والأولى ما ذكرناه أولا وقد شرط بعضهم في مفهوم الموافقة أن يكون أولى من المذكور وقد نقله إمام الحرمين الجويني في البرهان عن الشافعي وهو ظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ونقله الهندي عن الأكثرين وأما الغزالي وفخر الدين الرازي وأتباعهما فقد جعلوه قسمين‏:‏ تارة يكون أولى وتارة يكون مساويا وهو الصواب فجعلوا شرطه أن لا يكون المعنى في المسكوت عنه أقل مناسبة للحكم من المعنى المنطوق به قال الزركشي وهو ظاهر كلام الجمهور من أصحابنا وغيرهم وقد اختلفوا في دلالة النص على مفهوم الموافقة هل هي لفظية أو قياسية على قولين حكاهما الشافعي في الأمر وظاهر كلامه ترجيح أنه قياس ونقله الهندي في النهاية عن الأكثرين قال الصيرفي ذهبت طائفة جلة سيدهم الشفاعي إلى أن هذا هو القياس الجلي‏.‏

وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع إنه الصحيح وجرى عليه القفال الشاشي فذكره في أنواع القياس قال سليم الرازي الشافعي يومئ إلى أنه قياس جلي لا يجوز ورود الشرع بخلافه قال وذهب المتكلمون بأسرهم الأشعرية والمعتزلة إلى أنه مستفاد من النطق وليس بقياس‏.‏

قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني الصحيح من المذاهب أنه جار مجرى النطق لا مجرى دلالة النص لكن دلالته لفظية ثم اختلفوا فقيل إن المنع من التأفيف منقول بالعرف عن موضوعه اللغوي إلى المنع من أنواع الأذى وقيل إنه فهم بالسياق والقرائن وعليه المحققون من أهل هذا القول كالغزالي وابن القشيري والآمدي وابن الحاجب والدلالة عندهم مجازية من باب إطلاق الأخص وإرادة الأعم‏.‏

قال الماوردي والجمهور على أن دلالته من جهة اللغة لا من القياس قال القاضي أبو بكر الباقلاني القول بمفهوم الموافقة من حيث الجملة مجمع عليه قال ابن رشد لا ينبغي للظاهرية أن يخالفوا في مفهوم الموافقة لأنه من باب السمع والذي رد ذلك يرد نوعا من الخطاب قال الزركشي وقد خالف فيه ابن حزم قال ابن تيمية وهو مكابرة‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ مفهوم المخالفة

وهو حيث يكون السكوت عنه مخالفا للمذكور في الحكم إثباتا ونفيا فيثبت للمسكوت عنه نقيض حكم المنطوق به ويسمى دليل الخطاب لأن دليله من جنس الخطاب أو لأن الخطاب دال عليه قال القرافي وهل المخالفة بين المنطوق والمسكوت بضد الحكم المنطوق به أو نقيضه الحق الثاني ومن تأمل المفهومات وجدها كذلك وجميع مفاهيم المخالفة حجة عند الجمهور إلا مفهوم اللقب وأنكر أبو حنيفة الجميع وحكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع عن القفال الشاشي وأبي حامد المروزي وأما الأشعري فقال القاضي إن النقلة نقلوا عنه القول بالمفهوم كما نقلوا عنه نفي صيغ العموم وقد أضيف إليه خلاف ذلك وأنه قال بمفهوم الخطاب وذكر شمس الأئمة السرخسي من الحنفية في كتاب السير أنه ليس بحجة في خطابات الشرع وأما في مصطلح الناس وعرفهم فهو حجة وعكس ذلك بعض المتأخرين من الشافعية فقال هو حجة في كلام الله ورسوله وليس بحجة في كلام المصنفين وغيرهم كذا حكاه الزركشي واختلف المثبتون للمفهوم في مواضع‏:‏

أحدها‏:‏ هل هو حجة من حيث اللغة أو الشرع‏؟‏ وفي ذلك وجهان‏:‏ للشافعية حكاهما الماوردي والروياني قال ابن السمعاني والصحيح أنه حجة من حيث اللغة وقال الفخر الرازي لا يدل على النفي بحسب اللغة لكنه يدل عليه بسحب العرف العام وذكر في المحصول في باب العموم أنه يدل عليه العقل‏.‏

الموضع الثاني‏:‏ اختلفوا أيضا في تحقيق مقتضاه أنه هل يدل على نفي الحكم عما عدا المنطوق به مطلقا سواء كان من جنس المثبت أو لم يكن أو تختص دلالته بما إذا كان من جنسه فإذا قال في الغنم السائمة الزكاة فهل نفى الزكاة عن المعلوفة مطلقا سواء كانت من الإبل أو البقر أو الغنم أو هو مختص بالمعلوفة من الغنم وفي ذلك وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد الإسفراييني والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وسليم الرازي وابن السمعاني والفخر الرازي قال الشيخ أبو حامد والصحيح تخصيصه بالنفي عن معلوفة الغنم فقط قلت هو الصواب‏.‏

الموضع الثالث‏:‏ هل المفهوم المذكور يرتقي إلى أن يكون دليلا قاطعا أو لا يرتقي إلى ذلك قال إمام الحرمين الجويني إنه يكون قطعيا وقيل لا‏.‏

الموضع الرابع‏:‏ إذا دل الدليل على إخراج صورة من صور المفهوم فهل يسقط المفهوم بالكلية أو يتمسك في البقية‏؟‏ وهذا يمشي على الخلاف في حجية العموم إذا خص وقد تقدم الكلام في ذلك‏.‏

الموضع الخامس‏:‏ هل يجب العمل به قيل البحث عما يوافقه أو يخالفه من منطوق أو مفهوم آخر‏؟‏ فقيل حكمه حكم العمل بالعام قبل البحث عن المخصص وحكى القفال الشاشي في ذلك وجهين‏:‏

المسألة الثالثة‏:‏ ‏[‏شروط القول بمفهوم المخالفة‏]‏

للقول بمفهوم المخالفة شروط‏:‏

الأول‏:‏ أن لا يعارضه ما هو أرجح منه من منطوق أو مفهوم موافقة وأما إذ عارضه قياس فلم يجوز القاضي أبو بكر الباقلاني ترك المفهوم به مع تجويزه ترك العموم بالقياس كذا قال ولا شك أن القياس المعمول به يخصص عموم المفهوم كما يخصص عموم المنطوق وإذا تعارضا على وجه لا يمكن الجمع بينهما وكان كل واحد منهما معمولا به فالمجتهد لا يخفي عليه الراجح منهما من المرجوح وذلك يختلف باختلاف المقامات وبما يصاحب كل واحد منهما من القرائن المقوية له قال شارح اللمع دليل الخطاب إنما يكون حجة إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه كالنص والتنبيه فإن عارضه أحدهما سقط وإن عارضه عموم صح التعلق بعموم دليل الخطاب على الأصح وإن عارضه قياس جلي قدم القياس وأما الخفي فإن جعلناه حجة كالنطق قدم دليل الخطاب وإن جعلناه كالقياس فقد رأيت بعض أصحابنا يقدمون كثيرا القياس في كتب الخلاف والذي يقتضيه المذهب أنهما يتعارضان‏.‏

الشرط الثاني‏:‏ أن لا يكون المذكور قصد به الامتنان كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتأكلوا منه لحما طريا‏}‏ فإنه لا يدل على منع أكل ما ليس بطري‏.‏

الشرط الثالث‏:‏ أن لا يكون المنطوق خرج جوابا عن سؤال متعلق بحكم خاص ولا حادثة خاصة بالمذكور هكذا قيل ولا وجه لذلك فإنه لا اعتبار بخصوص السبب ولا بخصوص السؤال وقد حكى القاضي أبو يعلى في ذلك احتمالين قال الزركشي ولعل الفرق يعني عموم اللفظ وعموم المفهوم أن دلالة المفهوم ضعيفة تسقط بأدنى قرينة بخلاف اللفظ العام قلت وهذا فرق قوي لكنه إنما يتم في المفاهيم التي دلالتها ضعيفة أما المفاهيم التي دلالتها قوية قوة تلحقها بالدلالات اللفظية فلا قال ومن أمثلته قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة‏}‏ فلا مفهوم للأضعاف لأنه جاء على النهي عما كانوا يتعاطونه بسبب الآجال كان الواحد منهم إذا حل دينه يقول إما أن تعطي وإما أن تربي فيتضاعف بذلك أصل دينه مرارا كثيرة فنزلت الآية على ذلك‏.‏

الشرط الرابع‏:‏ أن لا يكون المذكور قصد به التفخيم وتأكيد الحال كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم والآخر أن تحد الحديث» فإن التقييد بالإيمان لا مفهوم له وإنما ذكر لتفخيم الأمر‏.‏

الشرط الخامس‏:‏ أن يذكر مستقلا فلو ذكر على وجه التبعية لشيء آخر فلا مفهوم له كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد‏}‏ فإن قوله في المساجد لا مفهوم له لأن المعتكف ممنوع من المباشرة مطلقا‏.‏

الشرط السادس‏:‏ أن لا يظهر من السياق قصد التعميم فإن ظهر فلا مفهوم له كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ للعلم بأن الله سبحانه قادر على المعدوم والممكن وليس بشيء فإن المقصود بقوله على كل شيء التعميم‏.‏

الشرط السابع‏:‏ أن لا يعود على أصله الذي هو المنطوق بالإبطال أما لو كانت كذلك فلا يعمل به‏.‏

الشرط الثامن‏:‏ أن لا يكون قد خرج مخرج الأغلب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربائبكم اللاتي في حجوركم‏}‏ فإن الغالب كون الربائب في الحجور فقيد به لذلك لا لأن حكم اللاتي لسن في الحجور بخلافه ونحو ذلك كثير في الكتاب والسنة‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏ في أنواع مفهوم المخالفة‏:‏

النوع الأول‏:‏ مفهوم الصفة

وهي تعليق الحكم على الذات بأحد الأوصاف نحو في سائمة الغنم زكاة والمراد بالصفة عند الأصوليين تقييد لفظ مشترك المعنى بلفظ آخر يختص ببعض معانيه ليس بشرط ولا غاية ولا يريدون به النعت فقط وهكذا عند أهل البيان فإن المراد بالصفة عندهم هي المعنوية لا النعت وإنما يخص الصفة بالنعت أهل النحو فقط وبمفهوم الصفة أخذ الجمهور وهو الحق لما هو معلوم من لسان العرب أن الشيء إذا كان له وصفان فوصف بأحدهما دون الآخر كان المراد به ما فيه تلك الصفة دون الآخر‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه وبعض الشافعية والمالكية إنه لا يؤخذ به ولا يعمل عليه ووافقهم من أئمة اللغة الأخفش ابن فارس وابن جني‏.‏

وقال المازري من الشافعية بالتفصيل بين أن يقع ذلك جواب سائل فلا يعمل به وبين أن يقع ابتداء فيعمل به فإنه لابد لتخصيصه بالذكر من موجب وفي جعل هذا التفصيل مذهبا مستقلا نظر فإنه قد تقدم أن من شرط الأخذ بالمفهوم عند القائلين به أن لا يقع جوابا لسؤال‏.‏

وقال أبو عبد الله البصري إنه حجة في ثلاث صور أن يرد مورد البيان كقوله في سائمة الغنم الزكاة أو مورد التعليم كقوله صلى الله عليه وسلم في خبر التحالف والسلعة قائمة أو يكون ما عدا الصفة داخلا تحت الصفة كالحكم بالشاهدين فإنه يدل على أنه لا يحكم بالشاهد الواحد لأن الداخل تحت الشاهدين ولا يدل على نفي الحكم فيما سوى ذلك‏.‏

وقال إمام الحرمين الجويني بالتفصيل بين الوصف المناسب وغيره فقال بمفهوم الأول دون الثاني وعليه يحمل نقل الرازي عنه للمنع ونقل ابن الحاجب عنه للجواز وقد طول أهل الأصول الكلام على استدلال هؤلاء المختلفين لما قالوا به وليس في ذلك حجة واضحة لأن المبحث لغوي واستعمال أهل اللغة والشرع لمفهوم الصفة وعملهم به معلوم لكل من له علم بذلك‏.‏

النوع الثاني‏:‏ مفهوم العلة

وهو تعليق الحكم بالعلة نحو حرمت الخمر لإسكارها والفرق بين هذا النوع والنوع الأول أن الصفة قد تكون علة كالإسكار وقد لا تكون علة بل متممة كالسوم فإن الغنم هي العلة والسوم متمم لها قال القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي والخلاف فيه وفي مفهوم الصفة واحد‏.‏

النوع الثالث‏:‏ مفهوم الشرط

والشرط في اصطلاح المتكلمين ما يتوقف عليه المشروط ولا يكون داخلا في المشروط ولا مؤثرا فيه وفي اصطلاح النحاة ما دخل عليه أحد الحرفين إن أو إذا أو ما يقوم مقامهما مما يدل على سببية الأول ومسببية الثاني وهذا هو الشرط اللغوي وهو المراد هنا لا الشرعي ولا العقلي وقد قال به القائلون بمفهوم الصفة ووافقهم على القول به بعض من خالف في مفهوم الصفة ولهذا نقله أبو الحسين السهيلي في آداب الجدل عن أكثر الحنفية ونقله ابن القشيري عن معظم أهل العراق ونقله إمام الحرمين عن أكثر العلماء وذهب أكثر المعتزلة كما نقله عنهم صاحب المحصول إلى المنع من الأخذ به ورجح المنع المحققون من الحنفية وروي عن أبي حنيفة ونقله ابن التلمساني عن مالك واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي والآمدي‏.‏

وقد بالغ إمام الحرمين في الرد على المانعين ولا ريب أنه قول مردود وكل ما جاؤوا به لا تقوم به الحجة والأخذ به معلوم من لغة العرب والشرع فإن من قال لغيره إن أكرمتني أكرمتك ومتى جئتني أعطيتك ونحو ذلك مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف بين كل من يفهم لغة العرب وإنكار ذلك مكابرة وأحسن ما يقال لمن أنكره عليك بتعلم لغة العرب فإن إنكارك لهذا يدل على أنك لا تعرفها‏.‏

النوع الرابع‏:‏ مفهوم العدد

وهو تعليق الحكم بعدد مخصوص فإنه يدل على انتفاء الحكم فيما عدا ذلك العدد زائدا كان أو ناقصا وقد ذهب إليه الشافعي كما نقله عنه أبو حامد وأبو الطيب الطبري والماوردي وغيرهم ونقله أبو الخطاب الحنبلي عن أحمد بن حنبل وبه قال مالك وداود الظاهري وبه قال صاحب الهداية من الحنفية ومنع من العمل به المانعون بمفهوم الصفة‏.‏

قال الشيخ أبو حامد وابن السمعاني وهو دليل كالصفة سواء والحق ما ذهب إليه الأولون والعمل به معلوم من لغة العرب ومن الشرع فإن من أمر بأمر وقيده بعدد مخصوص فزاد المأمور على ذلك العدد أو نقص عنه فأنكر عليه الآمر الزيادة أو النقص كان هذا الإنكار مقبولا عند كل من يعرف لغة العرب فإن ادعى المأمور أنه قد فعل ما أمر به مع كونه نقص عنه أو زاد عليه كانت دعواه هذه مردودة عنه كل من يعرف لغة العرب‏.‏

النوع الخامس‏:‏ مفهوم الغاية

وهو مد الحكم بإلى أو حتى وغاية الشيء آخره وإلى العمل به ذهب الجمهور وبه قال بعض من لم يعمل بمفهوم الشرط كالقاضي أبي بكر الباقلاني والغزالي والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين قال ابن القشيري وإليه ذهب معظم نفاة المفهوم وكذا قال القاضي أبو بكر حاكيا لذلك وحكى ابن برهان وصاحب المعتمد الاتفاق عليه قال سليم الرازي لم يختلف أهل العراق في ذلك‏.‏

وقال القاضي في التقريب صار معظم نفاة دليل الخطاب إلى أن التقييد بحرف الغاية يدل على انتفاء الحكم عما وراء الغاية قال لهذا أجمعوا على تسميتها غاية وهذا من توقيف اللغة معلوم فكان بمنزلة قولهم تعليق الحكم بالغاية موضوع للدلالة على أن ما بعدها بخلاف ما قبلها انتهى ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من الحنفية والآمدي ولم يتمسكوا بشيء يصلح للتمسك به قط بل صمموا على منعه طردا لباب المنع من العمل بالمفاهيم وليس ذلك بشيء‏.‏

النوع السادس‏:‏ مفهوم اللقب

وهو تعليق الحكم بالاسم العلم نحو قام زيد أو اسم النوع نحو في الغنم زكاة ولم يعمل به أحد إلا أبو بكر الدقاق كذا قيل وقال سليم الرازي في التقريب صار إليه الدقاق وغيره من أصحابنا يعني الشافعية وكذا حكاه عن بعض الشافعية ابن فورك ثم قال وهو الأصح قال إلكيا الطبري في التلويح إن ابن فورك كان يميل إليه وحكاه السهيلي في نتائج الفكر عن أبي بكر الصيرفي ونقله عبد العزيز في التحقيق عن أبي حامد المروزي قال الزركشي والمعروف عن أبي حامد إنكار القول بالمفهوم مطلقا‏.‏

وقال إمام الحرمين الجويني في البرهان وصار إليه الدقاق وصار إليه طوائف من أصحابنا ونقله أبو الخطاب الحنبلي في التمهيد عن منصوص أحمد قال وبه قال مالك وداود وبعض الشافعية انتهى ونقل القول به عن ابن خويز منداد والباجي وابن القصار وحكى ابن برهان في الوجيز التفصيل عن بعض الشافعية وهو أنه يعمل به في أسماء الأنواع لا في أسماء الأشخاص وحكى ابن حمدان وأبو يعلى من الحنابلة تفصيلا آخر وهو العمل بما دلت عليه القرينة دون غيره والحاصل أن القائل به كلا أو بعضا لم يأت بحجة لغوية ولا شرعية ولا عقلية ومعلوم من لسان العرب أن من قال رأيت زيدا لم يقتض أنه لم ير غيره قطعا وأما إذا دلت القرينة على العمل به فذلك ليس إلا للقرينة فهو خارج عن محل النزاع‏.‏

النوع السابع‏:‏ مفهوم الحصر

وهو أنواع أقواها‏:‏ ما وإلا نحو‏:‏ ما قام إلا زيد وقد وقع الخلاف فيه هل هو من قبيل المنطوق أو المفهوم وبكونه منطوقا جزم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في الملخص ورجحه القرافي في القواعد وذهب الجمهور إلى أنه من قبيل المفهوم وهو الراجح والعمل به معلوم من لغة العرب ولم يأت من لم يعمل به بحجة مقبولة ثم الحصر بإنما وهو قريب مما قبله في القوة‏.‏

قال إلكيا الطبري وهو أقوى من مفهوم الغاية وقد نص عليه الشافعي في الأم وصرح هو وجمهور أصحابه أنها في قوة الإثبات والنفي بما وإلا وذهب ابن سريج وأبو حامد المروزي أن حكم ما عدا الإثبات موقوف على الدليل بما تضمنه من الاحتمال وقد وقع الخلاف هل هو منطوق أو مفهوم والحق أنه مفهوم وأنه معمول به كما يقتضيه لسان العرب ثم حصر المبتدأ في الخبر وذلك بأن يكون معرفا باللام أو الإضافة نحو العالم زيد وصديقي عمرو فإنه يفيد الحصر إذ المراد بالعالم وبصديقي هو الجنس فيدل على العموم إذ لم تبن هناك قرينة تدل على العهد فهو يدل على نفي العلم من غير زيد ونفي الصداقة من غير عمرو وذلك أن الترتيب الطبيعي أن يقدم الموصوف علىالوصف فإذا قدم الوصف على الموصوف معرفا باللام أو الإضافة أفاد العدول مع ذلك التعريف أن نفي ذلك الوصف عن غير الموصوف مقصود للمتكلم وقيل إنه يدل على ذلك بالمنطوق والحق أن دلالته مفهومية لا منطوقية‏.‏

وإلى ذلك ذهب جماعة من الفقهاء والأصوليين ومنهم إمام الحرمين الجويني والغزالي وأنكره جماعة منهم القاضي أبو بكر الباقلاني والآمدي وبعض المتكلمين والكلام في تحقيق أنواع الحصر محرر في علم البيان وله صور غير ما ذكرناه هاهنا وقد تتبعتها من مؤلفاتهم ومن مثل كشاف الزمخشري وما هو على نمطه فوجدتها تزيد على خمسة عشر نوعا وجمعت في تقرير ذلك بحثا‏.‏

النوع الثامن‏:‏ مفهوم الحال

أي تقييد الخطاب بالحال وقد عرفت أنه من جملة مفاهيم الصفة لأن المراد الصفة المعنوية لا النعت وإنما أفردناه بالذكر تكميلا للفائدة قال ابن السمعاني ولم يذكره المتأخرون لرجوعه إلى الصفة وقد ذكره سليم الرازي في التقريب وابن فورك‏.‏

النوع التاسع‏:‏ مفهوم الزمان

كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحج أشهر معلومات‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة‏}‏ وهو حجة عند الشافعي كما نقله الغزالي وشيخه وهو في التحقيق داخل في مفهوم الصفة باعتبار متعلق الظرف المقدر كما تقرر في علم العربية‏.‏

النوع العاشر‏:‏ مفهوم المكان

نحو جلست أمام زيد وهو حجة عند الشافعي كما نقله الغزالي وفخر الدين الرازي ومن ذلك لو قال بع في مكان كذا فإنه يتعين وهو أيضا راجع إلى مفهوم الصفة لما عرفت في النوع الذي قبله‏.‏

الباب التاسع من المقصد الرابع في النسخ

وفيه سبع عشرة مسألة‏:‏

المسألة الأولى‏:‏ في حده

وهو في اللغة الإبطال والإزالة ومنه نسخت الشمس الظل والريح آثار القدم ومنه تناسخ القرون وعليه اقتصر العسكري ويطلق ويراد به النقل والتحويل ومنه نسخت الكتاب أي نقلته ومن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون‏}‏ ومنه تناسخ المواريث‏.‏

ثم اختلفوا هل هو حقيقة في المعنيين أم في أحدهما دون الآخر فحكى الصفي الهندي عن الأكثرين أنه حقيقة في الإزالة مجاز في النقل وقال القفال الشاشي إنه حقيقة في النقل وقال القاضي أبو بكر الباقلاني والقاضي عبد الوهاب والغزالي إنه حقيقة فيهما مشترك بينهما لفظا لاستعماله فيهما وقال ابن المنبر في شرح البرهان إنه مشترك بينهما اشتراكا معنويا لأن بين نسخ الشمس الظل ونسخ الكتاب مقدارا مشتركا وهو الرفع وهو في الظل بين لأنه زال بضده وفي نسخ الكتاب متعذر من حيث إن الكلام المنسوخ بالكتابة لم يكن مستفادا إلا من الأصل فكان للأصل بالإفادة خصوصية فإذا نسخ الأصل ارتفعت تلك الخصوصية وارتفاع الأصل والخصوصية سواء في مسمى الرفع وقيل القدر المشترك بينهما هو التغيير وقد صرح به الجوهري‏.‏

قال في المحصول فإن قيل وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار والظل هو الله تعالى وإذا كان ذلك مجازا امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ثم نعارض ما ذكرتموه ونقول النسخ هو النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر كأنك تنقله إليه أو تنقل حكايته ومنه تناسخ الأرواح وتناسخ القرون قرنا بعد قرن وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلا عن الأول فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل ويلزم أن لا يكون حقيقة في الإزالة دفعا للاشتراك وعليكم الترجيح الجواب عن الأول من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى هو الناسخ لذلك من حيث فعل الشمس والريح المؤثرين فهب أنه كذلك لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لا إسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس وعن الثاني أنه النقل أخص من الزوال لأنه حيث وجد النقل فقد عدمت صفة حصلت عقيبها صفة أخرى فإذا مطلق العدم أعم من عدم تحصل شيء آخر عقيبة وإذا اللفظ بين العام والخاص كان جعله حقيقة في العام أولى من جعله حقيقة في الخاص على ما تقدم تقريره في كتاب اللغات انتهى‏.‏

وأما في الاصطلاح فقال جماعة منهم القاضي أبو بكر الباقلاني والصيرفي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي والغزالي والآمدي وابن الأنباري وغيرهم هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه وإنما آثروا الخطاب على النص ليكون شاملا للفظ والفحوى والمفهوم فإنه يجوز نسخ جميع ذلك وقالوا الدال على ارتفاع الحكم ليتناول الأمر والنهي والخبر وجميع أنواع الحكم وقالوا بالخطاب المتقدم ليخرج إيجاب العبادات ابتداء فإنه يزيل حكم العقل ببراءة الذمة ولا يسمى نسخا لأنه لم يزل حكم خطاب وقالوا على وجه لولاه لكان ثابتا لأن حقيقة النسخ الرفع وهو إنما يكون رافعا لو كان المتقدم بحيث لولا طريانه لبقي وقالوا مع تراخيه عنه لأنه لو اتصل لكان بيانا لمدة العبادة لا نسخا وقد اعترض على هذا الحد بوجوه‏:‏

الأول‏:‏ أن النسخ هو نفس الارتفاع والخطاب إنما هو دال على الارتفاع وفرق بين الرافع وبين نفس الارتفاع‏.‏

الثاني‏:‏ أن التقييد بالخطاب خطأ لأن النسخ قد يكون فعلا كما يكون قولا‏.‏

الثالث‏:‏ أن الأمة إذا اختلفت على قولين ثم أجمعت بعد ذلك على أحدهما فهذا الإجماع خطاب مع أن الإجماع لا ينسخ به‏.‏

الرابع‏:‏ أن الحكم الأول قد يثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وليس هو الخطاب قال الرازي في المحصول والأولى أن يقال الناسخ طريق شرعي يدل على أن مثل الحكم الذي كان ثابتا بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتا وفيه أن قوله مثل الحكم الذي الخ يشمل ما كان مماثلا له في وجه من الوجوه فلا يتم النسخ لحكم إلا برفع جميع المماثلات له في شيء مما يصح عنده إطلاق المماثلات له في شيء مما يصح عنده إطلاق المماثلة عليه‏.‏

وقال الزركشي المختار في حده اصطلاحا أنه رفع الحكم الشرعي بخطاب وفيه أن الناسخ قد يكون فعلا لا خطابا وفي أيضا أنه أهمل تقييده بالتراخي ولا يكون نسخ إلا به وقال ابن الحاجب في مختصر المنتهى إنه في الاصطلاح رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر واعترض عليه بأن الحكم راجع إلى كلام الله سبحانه وهو قديم والقديم لا يرفع ولا يزول وأجيب بأن المرفوع تعلق الحكم بالمكلف لا ذاته ولا تعلقه الذاتي وقال جماعة هو في الاصطلاح الخطاب الدال على انتهاء الحكم الشرعي مع التأخير عن موارده ويرد على قيد الخطاب ما تقدم فالأولى أن يقال هو رفع حكم شرعي بمثله مع تراخيه عنه‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ النسخ جائز عقلا واقع سمعا

بلا خلاف في ذلك بين المسلمين إلا ما يروي عن أبي مسلم الأصفهاني فإنه قال أنه جائز غير واقع وإذا صح هذا عنه فهو دليل على أنه جاهل بهذه الشريعة المحمدية جهلا فظيعا وأعجب من جهله بها حكاية من حكى عنه الخلاف في كتب الشريعة فإنه إنما يعتد بخلاف المجتهدين لا بخلاف من بلغ في الجهل إلى هذه الغاية وأما الجواز فلم يحك الخلاف فيه إلا عن اليهود وليس بنا إلى نصب الخلاف بيننا وبينهم حاجة ولا هذه بأول مسألة خالفوا فيها أحكام الإسلام حتى يذكر خلافهم في هذه المسألة ولكن هذا من غرائب أهل الأصول على أنا قد رأينا في التوراة في غير موضع أن الله سبحانه رفع عنهم أحكاما لما تضرعوا إليه وسألوا منه رفعها وليس النسخ إلا هذا ولهذا لم يحكه من له معرفة بالشريعة الموسوية إلا عن طائفة من اليهود وهم الشمعونية ولم يذكروا لهم دليلا إلا ما ذكره بعض أهل الأصول من أن النسخ بداء والبداء ممتنع عليه وهذا مدفوع بأن النسخ لا يستلزم البداء لا عقلا ولا شرعا وقد جوزت الرافضة البداء عليه عز وجل لجواز النسخ وهذه مقالة توجب الكفر بمجردها والحاصل أن النسخ جائز عقلا واقع شرعا من غير فرق بين كونه في الكتاب أو السنة‏.‏

وقد حكى جماعة من أهل العلم اتفاق أهل الشرائع عليه فلم يبق في المقام ما يقتضي تطويل المرام وقد أو لجماعة خلاف أبي مسلم الأصفهاني المذكور سابقا بما يوجب أن يكون الخلاف لفظيا‏.‏

قال ابن دقيق العيد نقل عن بعض المسلمين إنكار النسخ لا بمعنى أن الحكم الثابت لا يرتفع بل بمعنى أنه ينتهي بنص دل على انتهائه فلا يكون نسخا ونقل عنه أبو إسحاق الشيرازي والفخر الرازي وسليم الرازي أنه إنما أنكر الجواز وأن خلافه في القرآن خاصة لا كما نقل عنه الآمدي وابن الحاجب أنه أنكر الوقوع وعلى كلا التقديرين فذلك جهالة منه عظيمة للكتاب والسنة ولأحكام العقل فإنه إن اعترف بأن شريعة الإسلام ناسخة لما قبلها من الشرائع فهذا بمجرده يوجب عليه الرجوع عن قوله وإن كان لا يعلم ذلك فهو جاهل بما هو من الضروريات الدينية وإن كانا مخالفا لكونها ناسخة للشرائع فهو خلاف كفري لا يلتفت إلى قائله نعم إذا قال إن الشرائع المتقدمة مغياة بغاية هي البعثة المحدية وأن ذلك ليس بنسخ فذلك أخف من إنكار كونه نسخا غير مقيد بهذا القيد فإن قلت ما الحكمة في النسخ‏؟‏

قلت قال الفخر الرازي في المطالب العالية إن الشرائع قسمان منها ما يعرف نفعها بالعقل في المعاش والمعاد ومنها سمعية لا يعرف الانتفاع بها إلا من السمع فالأول يمتنع طروء النسخ عليه كمعرفة الله وطاعته أبدا ومجامع هذه الشرائع العقلية أمران التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله تعالى قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ ما يمكن طريان النسخ والتبديل عليه وهو أمور تحصل في كيفية إقامة الطاعات الفعلية والعبادات الحقيقية وفائدة نسخها أن الأعمال البدنية إذا توطئوا عليها خلفا عن سلف صارت كالعادة عند الخلق وظنوا أن أعيانها مطلوبة لذاتها ومنعهم ذلك عن الوصول إلى المقصود وعن معرفة الله وتمجيده فإذا غير ذلك الطريق إلى نوع من الأنواع وتبين أن المقصود من هذه الأنواع رعاية أحوال القلب والأرواح في المعرفة والمحبة انقطعت الأوهام من الاشتغال بتلك الظواهر إلى علام السرائر وقيل الحكمة أن هذا الخلق طبع على الملالة من الشيء فوضع في كل عصر شريعة جديدة لينشطوا في أدائها وقيل بيان شرف نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه نسخ بشريعته شرائعهم وشريعته لا ناسخ لها وقيل الحكمة حفظ مصالح العبد فإذا كانت المصلحة لهم في تبديل حكم بحكم وشريعة بشريعة كان التبديل لمراعاة هذه المصلحة وقيل الحكمة بشارة المؤمنين برفع الخدمة عنهم وبأن رفع مؤنتها عنهم في الدنيا مؤذن برفعها في الجنة وذكر الشافعي في الرسالة أن فائدة النسخ رحمة الله بعبادة والتخفيف عنهم وأورد عليه أنه قد يكون بأثقل ويجاب عنه بأن الرحمة قد تكون بالأثقل أكثر من الأخف لما يستلزمه من تكثير الثواب والله لا يضيع عمل عامل فتكثير الثواب في الأثقل يصيره خفيفا على العامل يسيرا عليه لما يتصوره من جزالة الجزاء‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ ‏[‏شروط النسخ‏]‏

للنسخ شروط‏:‏

الأول أن يكون المنسوخ شرعيا لا عقليا الثاني أن يكون الناسخ منفصلا عن المنسوخ متأخرا عنه فإن المقترن كالشرط والصفة والاستثناء لا يسمى نسخا بل تخصيصا الثالث أن يكون النسخ بشرع فلا يكون ارتفاع الحكم بالموت نسخا بل هو سقوط تكليف الرابع أن لا يكون المنسوخ مقيدا بوقت أما لو كان كذلك فلا يكون انقضاء وقته الذي قيد به نسخا له الخامس أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في القوة أو أقوى منه لا إذا كان دونه في القوة لأن الضعيف لا يزيل القوي‏.‏

قال إلكيا وهذا مما قضى به العقل بل دل الإجماع عليه فإن الصحابة لم ينسخوا نص القرآن بخبر الواحد وسيأتي لهذا الشرط مزيد بيان السادس أن يكون المقتضى للمنسوخ غير المقتضى للناسخ حتى لا يلزم البداء كذا قيل‏.‏

قال إلكيا ولا يشترط بالاتفاق أن يكون اللفظ الناسخ متناولا لما تناوله المنسوخ أعني بالتكرار والبقاء لا يمنع فهم البقاء بدليل آخر سوى اللفظ السابع أن يكون مما يجوز نسخه فلا يدخل النسخ أصل التوحيد لأن الله سبحانه بأسمائه وصفاته لم يزل ولا يزال ومثل ذلك ما علم بالنص أنه يتأبد ولا يتأقت قال سليم الرازي وكل بأسمائه وصفاته لم يزل ولا يزال ومثل ذلك ما علم بالنص أنه يتأبد ولا يتأقت قال سليم الرازي وكل ما لا يكون إلا على صفة واحدة كمعرفة الله ووحدانيته ونحوه فلا يدخله النسخ ومن هاهنا يعلم أنه لا نسخ في الأخبار إذ لا يتصور وقوعها على خلاف ما أخبر به الصادق وكذا قال إلكيا الطبري وقال الضابط فيما ينسخ ما يتغير حاله من حسن إلى قبح‏.‏

قال الزركشي واعلم أن في جواز نسخ الحكم المعلق بالتأبيد وجهين حكاهما الماوردي والروياني وغيرهما أحدهما المنع لأن صريح التأييد مانع من احتمال النسخ والثاني الجواز قالا وأنسبهما الجواز قال ونسبه ابن برهان إلى معظم العلماء ونسبه أبو الحسين في المعتمد إلى المحققين لأن العادة في لفظ التأبيد المستعمل في لفظ الأمر المبالغة لا الدوام‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏ ‏[‏جواز النسخ بعد اعتقاد المنسوخ والعمل به‏]‏

اعلم أنه يجوز النسخ بعد اعتقاد المنسوخ والعمل به بلا خلاف‏.‏

قال الماوردي وسواء عمل به كل الناس كاستقبال بيت المقدس أو بعضهم كفرض الصدقة عند مناجاة الرسول ولا خلاف أيضا في جواز النسخ بعد التمكين من الفعل الذي تعلق به الحكم بعد علمه بتكليفه به وذلك بأن يمضي من الوقت المعين ما يسع الفعل وقد حكى الخلاف في ذلك عن الكرخي وأما النسخ قبل علم المكلف بوجوب ذلك الفعل عليه كما إذا أمر الله تعالى جبريل عليه السلام أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب شيء على الأمة ثم ينسخه قبل أن يعملوا به فحكى السمعاني في ذلك الاتفاق على المنع قال الزركشي وليس كذلك ففي المسألة وجهان لأصحابنا حكاهما الأستاذ أبو منصور وإلكيا انتهى ويرد على المنع ما ثبت في ليلة المعراج من فرض خمسين صلاة ثم استقرت على خمس ولا وجه لما قيل أن ذلك كان على سبيل التقرير دون النسخ‏.‏

قال ابن برهان في الوجيز نسخ الحكم قبل علم المكلف بوجوبه جائز عندنا ومنعت من ذلك المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة وزعموا أن النسخ قبل العلم يتضمن تكليف المحال قال وهذه المسألة فرع تكليف ما لا يطاق فإذا قضينا بصحته صح النسخ حينئذ‏.‏

قال واحتج علماؤنا في هذه المسألة بقصة المعارج فإن الله تعالى أوجب على الأمة خمسين صلاة ثم نسخها قبل علمهم بوجوبها وهذا لا حجة فيه لأن النسخ إنما كان بعد العلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد المكلفين وقد علم ولكنه قبل جميع الأمة وعلم الجميع لا يشترط فإن التكليف استقر بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا اعتماد على هذا الحديث ويجاب عنه بأن عدم علم الأمة يقتضي وقوع النسخ قبل علم المكلفين بما كلفوا به وهو محل النزاع وحكى القاضي أبو بكر وغيره عن جمهور الفقهاء والمتكلمين أن مثل هذا لا يكون نسخا‏.‏

وقال بعض المتأخرين نسخ الحكم قبل علم المكلف بالحكم المنسوخ اتفقت الأشاعرة على جوازه والمعتزلة على منعه وحكى الفقهاء في المسألة طريقين‏:‏ أحدهما أن للشافعي في المسألة قولين والثاني الفرق بين الأحكام التكليفية والأحكام التعريفية فمنعوه في الأول وجوزوه في الثاني كتكليف الغافل وهو مذهب أبي حنيفة انتهى وأما إذا كان المكلف قد علم بوجوبه عليه ولكن لم يكن قد دخل وقته وسواء كان موسعا كما لو قال اقتلوا المشركين غدا ثم نسخ عنهم في ذلك اليوم أو يكون على الفور ثم نسخ قبل التمكن من الفعل أو يؤمر بالعبادة مطلقا ثم نسخ قبل مضي وقت يمكن فعلها فيه فذهب الجمهور إلى الجواز ونقله ابن برهان عن الأشعرية وجماعة من الحنفية ونقله غيرهم عن معتزلة البصرة‏.‏

قال القاضي في التقريب وهو قول جميع أهل الحق وذهب أكثر الحنفية كما قاله ابن السمعاني والحنابلة والمعتزلة إلى المنع وبه قال الكرخي والجصاص والماتريدي والدبوسي والصيرفي احتج الجمهور بأنه لا مانع من ذلك لا عقلا ولا شرعا مع أن المقتضى موجود وهو أنه رفع تكليف قد ثبت على المكلف فكان نسخا وليس في ذلك ما يستلزم البداء ولا المحال لأن المصلحة التي جاز النسخ لأجلها بعد التمكن من الفعل وبعد دخول الوقت يصح اعتبارها قبل التمكن من الفعل وقبل دخول الوقت للقطع بأن تبديل حكم بحكم ورفع شرع بشرع كان فيهما وأما إذا كان قد دخل وقت المأمور به لكن وقع نسخه قبل فعله إما لكونه موسعا أو لكونه أراد أن يشرع فيه فنسخ فقال سليم الرازي وابن الصباغ إنه لا خلاف بين أهل العلم في جوازه وجعلوا صورة الخلاف فيما إذا كان النسخ قبل دخول الوقت وكذا نقل الإجماع في هذه الصورة ابن برهان وبعض الحنابلة والآمدي وبه صرح إمام الحرمين في البرهان وأما إذا كان قد دخل وقته وشرع في فعله فنسخ قبل تمام الفعل فقال القرافي لم أر فيه نقلا‏.‏

وجعلها الأصفهاني في شرح المحصول من صور الخلاف فمن قال بالجواز جوز هذه الصورة ومن قال بالمنع منعها وأما إذا وقع النسخ بعد خروج الوقت قبل الفعل قال الزركشي فمقتضى استدلال ابن الحاجب أنه يمتنع بالاتفاق ووجهه بأن التكليف بذلك الفعل المأمور به بعد مضي وقته ينتفي لانتفاء الوقت وإذا انتفى فلا يمكن رفعه لامتناع رفع المعدوم لكن صرح الآمدي في الأحكام بالجواز وأنه لا خلاف فيه قيل ولا يتأتى إلا إذا صرح بوجوب القضاء أو على القول بأن الأمر بالأداء يستلزم القضاء‏.‏

المسألة الخامسة‏:‏ ‏[‏في اشتراط البدل في النسخ‏]‏

إنه لا يشترط في النسخ أن يخلفه بدل، وإليه ذهب الجمهور وهو الحق الذي لا سترة به فإنه قد وقع النسخ في هذه الشريعة المطهرة لأمور معروفة لا إلى بدل ومن ذلك نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول ونسخ ادخار لحوم الأضاحي ونسخ تحريم المباشرة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فالآن باشروهن‏}‏ ونسخ قيام الليل في حقه صلى الله عليه وسلم وأما ما تمسك به المخالفون وهم بعض المعتزلة وقيل كلهم والظاهرية من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها‏}‏ فلا دلالة في ذلك على محل النزاع فإن المراد نسخ لفظ الآية كما يدل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏نأت بخير منها أو مثلها‏}‏ فليس لنسخ الحكم ذكر في الآية ولو سلمنا لجاز أن يقال إن إسقاط ذلك الحكم خير من ثبوته في ذلك الوقت‏.‏

وقد نص الشافعي في الرسالة على أنه يختار ما ذهب إليه القائلون باشتراط البدل فقال وليس ينسخ فرض أبدا إلا أثبت مكانه فرض كما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة قال وكل منسوخ في كتاب الله وسنته صلى الله عليه وسلم هكذا قال الصيرفي وأبو إسحاق إنما أراد الشافعي بهذه العبارة أنه ينقل من حظر إلى إباحة من إباحة إلى حظر أو يخبر على حسب أحوال المفروض كما في المناجاة فإنه كان يناجي النبي صلى الله عليه وسلم بلا تقديم صدقة ثم فرض الله تقديم الصدقة ثم أزال ذلك فردهم على ما كانوا عليه وهذا الحمل هو الذي ينبغي تفسير كلام الشافعي به فإن مثله لا يخفي عليه وقوع النسخ في هذه الشريعة بلا بدل ولا شك في أنه يجوز ارتفاع التكليف بالشيء والنسخ مثله لأنه رفع تكليف ولم يمنع من ذلك شرع ولا عقل بل دل الدليل على الوقوع‏.‏

المسألة السادسة‏:‏ ‏[‏وحوه النسخ إلى بدل‏]‏

النسخ إلى بدل يقع على وجوه‏:‏

الأول أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في التخفيف والتغليظ وهذا لا خلاف فيه وذلك كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة الثاني‏:‏ نسخ الأغلظ بالأخف وهو أيضا مما لا خلاف فيه وذلك كنسخ العدة حولا بالعدة أربعة أشهر وعشرا الثالث‏:‏ نسخ الأخف إلى الأغلظ فذهب الجمهور إلى جوازه خلافا للظاهرية والحق الجواز والوقوع كما في نسخ وضع القتال في أول الإسلام بفرضه بعد ذلك ونسخ التخيير بين الصوم والفدية بفرضية الصوم ونسخ تحليل الخمر بتحريمها ونسخ نكاح المتعة بعد تجويزها ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان واستدل المانعون بقوله‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها‏}‏‏.‏

وأجيب بأن المراد اليسر في الآخرة وهذا الجواب وإن كان بعيدا لكن وقوع النسخ في هذه الشريعة للأخف بالأغلظ يوجب تأويل الآية ولو بتأويل بعيد على أنه يمكن أن يقال إن الناسخ والمنسوخ هما من اليسر والأغلظية في الناسخ إنما هي بالنسبة إلى المنسوخ وهو بالنسبة إلى غيره تخفيف ويسر وأما الجواب عن الآية الثانية فظاهر لأن الناسخ الأغلظ ثوابه أكثر فهو خير من المنسوخ من هذه الحيثية‏.‏

المسألة السابعة‏:‏ في جواز نسخ الأخبار

وفيه تفصيل‏:‏ وهو أن يقال إن كان خبرا عما لا يجوز تغيره كقولنا العالم حادث فهذا لا يجوز نسخه بحال وإن كان خبرا عما يجوز تغيره فإما أن يكون ماضيا أو مستقبلا والمستقبل إما أن يكون وعدا أو وعيدا أو خبرا عن حكم كالخبر عن وجوب الحج فذهب الجمهور إلى جواز النسخ لهذا الخبر بجميع هذه الأقسام‏.‏

وقال أبو علي وأبو هاشم لا يجوز النسخ لشيء منها قال في المحصول وهو قول أكثر المتقدمين استدل الجمهور على الجواز أن الخبر إن كان عن أمر ماض كقوله عمرت نوحا ألف سنة جاز أن يبين من بعد أنه عمره ألف سنة إلا خمسين عاما وإن كان مستقبلا وكان وعدا أو وعيدا كقوله لأعذبن الزاني أبدا فيجوز أن يبين من بعد أنه أراد ألف سنة وإن كان خبرا عن حكم الفعل في المستقبل كان الخبر كالأمر في تناوله الأوقات المستقبلة فصح إطلاق الكل مع إرادة البعض لما تناوله بموضوعه قال الزركشي إن كان مدلول الخبر مما لا يمكن تغيره بأن لا يقع إلا على وجه واحد كصفات الله وخبر ما كان من الأنبياء والأمم وما يكون من الساعة وآياتها كخروج الدجال فلا يجوز نسخه بالاتفاق كما قاله أبو إسحاق المروزي وابن برهان في الأوسط لأنه يفضي إلى الكذب وإن كان مما يصح تغيره بأن يقع على الوجه المخبر عنه ماضيا كان أو مستقبلا وعدا أو وعيدا أو خبرا عن حكم شرعي فهو موضوع الخلاف فذهب أبو عبد الله وأبو الحسين البصريان وعبد الجبار والفخر الرازي إلى جوازه مطلقا ونسبه ابن برهان في الأوسط إلى المعظم وذهب جماعة إلى المنع منهم أبو بكر الصيرفي كما رأيته في كتابه وأبو إسحاق المروزي كما رأيته في كتابه في الناسخ والمنسوخ والقاضي أبو بكر وعبد الوهاب والجبائي وابنه أبو هاشم وابن السمعاني وابن الحاجب‏.‏

وقال الأصفهاني إنه الحق ومنهم من فصل ومنع من الماضي لأنه يكون تكذيبا دون المستقبل لجريانه مجرى الأمر والنهي فيجوز أن يرفع لأن الكذب يختص بالماضي ولا يتعلق بالمستقبل‏.‏

قال الشافعي لا يجب الوفاء بالوعد، وإنما يسمى من لم يف بالوعد مخلفا لا كاذبا وهذا التفصيل جزم به سليم وجرى عليه البيضاوي في المنهاج وسبقهما إليه أبو الحسين بن القطان أقول والحق منعه في الماضي مطلقا وفي بعض المستقبل وهو الخبر بالوعد لا بالوعيد ولا بالتكليف أما التكليف فظاهر لأنه رفع حكم عن مكلف وأما بالوعيد فلكونه عفوا لا يمتنع من الله سبحانه بل هو حسن يمدح فاعله من غيره ويمتدح به في نفسه وأما الماضي فهو كذب صراح إلا أن يتضمن تخصيصا أو تقييدا أو تبيينا لما تضمنه الخبر الماضي فليس بذلك بأس وهذه المسألة لها إلمام بمسألة الحسن والقبح المتقدم ذكرها في بعض أطرافها دون بعض وقد استدل المانعون مطلقا باستلزام ذلك الكذب وهو استدلال باطل فإن ذلك الاستلزام إنما هو في بعض الصور كما عرفت لا في كلها وقد نقل أبو الحسين في المعتمد عن شيوخ المعتزلة منع النسخ في الوعد والوعيد قال الزركشي وأما عندنا فكذلك في الوعد لأنه إخلاف والخلف في الأنعام يستحيل على الله وبه صرح الصيرفي في كتابه وأما في الوعيد فنسخه جائز كما قال ابن السمعاني قال ولا يعد ذلك خلفا بل عفوا وكرما‏.‏

المسألة الثامنة‏:‏ في نسخ التلاوة دون الحكم والعكس ونسخهما معا

وقد جعل أبو إسحاق المروزي وابن السمعاني وغيرهما ذلك ستة أقسام‏:‏

الأول‏:‏ ما نسخ حكمه وبقي رسمه كنسخ آية الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث ونسخ العدة حولا بالعدة أربعة أشهر وعشرا فالمنسوخ ثابت التلاوة والحكم وإلى جواز ذلك ذهب الجمهور بل ادعى بعضهم الإجماع عليه وقد حكى جماعة من الحنفية والحنابلة عدم الجواز عن بعض أهل الأصول قالوا لأنه إذا انتفى الحكم فلا فائدة في التلاوة وهذا قصور عن معرفة الشريعة وجهل كبير بالكتاب العزيز فإن المنسوخ حكمه الباقية تلاوته في الكتاب العزيز مما لا ينكره من له أدنى قدم في العلم‏.‏

الثاني‏:‏ ما نسخ حكمه ورسمه وثبت حكم الناسخ ورسمه كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة ونسخ صيام عاشوراء بصيام رمضان قال أبو إسحاق المروزي ومنهم من جعل القبلة من نسخ السنة بالقرآن وزعم أن استقبال بيت المقدس بالسنة لا بالقرآن‏.‏

الثالث‏:‏ ما نسخ حكمه وبقي رسمه ورفع رسم الناسخ وبقي حكمه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا‏}‏ بقوله تعالى‏:‏ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله وقد ثبت في الصحيح أن هذا كان قرآنا يتلى ثم نسخ لفظه وبقي حكمه‏.‏

الرابع‏:‏ ما نسخ حكمه ورسمه ونسخ رسم الناسخ وبقي حكمه كما ثبت في الصحيح عن عائشة أنها قالت كان فيما أنزل عشر رضعات متتابعات يحرمن فنسخن بخمس رضعات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يتلى من القرآن قال البيهقي فالعشر مما نسخ رسمه حكمه والخمس مما نسخ رسمه وبقي حكمه بدليل أن الصحابة حين جمعوا القرآن لم يثبتوها رسما وحكمها باق عندهم قال ابن السمعاني وقولها وهن مما يتلى من القرآن بمعنى أنه يتلى حكمها دون لفظها وقال البيهقي المعنى أنه يتلوه من لم يبلغه نسخ تلاوته ومنع قوم من نسخ اللفظ مع بقاء حكمه وبه جزم شمس الأئمة السرخسي لأن الحكم لا يثبت بدون دليله ولا وجه لذلك فإن الدليل ثابت موجود محفوظ ونسخ كونه قرآنا لا يستلزم عدم وجوده ولهذا رواه الثقات في مؤلفاتهم‏.‏

الخامس‏:‏ ما نسخ رسمه لا حكمه ولا يعلم الناسخ له وذلك كما ثبت في الصحيح لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب فإن هذا كان قرآنا ثم نسخ رسمه قال ابن عبد البر في التمهيد قيل إنه في سورة ص وكما ثبت في الصحيح أيضا أنه نزل في القرآن حكاية عن أهل بئر معونة أنهم قالوا بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا وكما أخرجه الحاكم في مستدركه من حديث زر بن جبيش عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليه لم يكن الذين كفروا وقرأ فيها أن ذات الدين عند الله الحنيفية لا اليهودية ولا النصرانية ومن يعمل خيرا فلن يكفر قال الحاكم صحيح الإسناد فهذا مما نسخ لفظه وبقي معناه وعده ابن عبد البر في التمهيد مما نسخ خطه وحكمه وحفظه قال ومنه قول من قال إن سورة الأحزاب كانت نحو سورة البقرة‏.‏

السادس‏:‏ ناسخ صار منسوخا وليس بينهما لفظ متلو كالمواريث بالحلف والنصرة فإنه نسخ التوارث بالإسلام والهجرة ونسخ التوارث بالإسلام والهجرة بآية المواريث قال ابن السمعاني وعندي أن القسمين الأخيرين تكلف وليس يتحقق فيهما النسخ وجعل أبو إسحاق المروزي التوريث بالهجرة من قسم ما علم أنه منسوخ ولم يعلم ناسخه والحاصل أن نسخ التلاوة دون الحكم أو الحكم دون التلاوة أو نسخهما معا لم يمنع منه مانع شرعي ولا عقلي فلا وجه للمنع منه لأن جواز تلاوة الآية حكم من أحكامها وما تدل عليه الأحكام حكم آخر لها ولا تلازم بينهما وإذا ثبت ذلك فيجوز نسخهما ونسخ أحدهما كسائر الأحكام المتباينة ولنا أيضا الوقوع وهو دليل الجواز كما عرفت مما أوردناه‏.‏

المسألة التاسعة‏:‏ ‏[‏في جواز نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة وجواز نسخ الآحاد بالآحاد ونسخ الآحاد بالمتواتر‏]‏

لا خلاف في جواز نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة وجواز نسخ الآحاد بالآحاد ونسخ الآحاد بالمتواتر‏.‏

وأما نسخ القرآن أو المتواتر من السنة بالآحاد فقد وقع الخلاف في ذلك في الجواز والوقوع أما الجواز عقلا فقال به الأكثرون وحكاه سليم الرازي عن الأشعرية والمعتزلة ونقل ابن برهان في الأوسط الاتفاق عليه فقال لا يستحيل عقلا نسخ الكتاب بخبر الواحد بلا خلاف وإنما الخلاف في جوازه شرعا وأما الوقوع فذهب الجمهور كما حكاه ابن برهان وابن الحاجب وغيرهما إلى أنه غير واقع‏.‏

ونقل ابن السمعاني وسليم في التقريب الإجماع على عدم وقوعه وهكذا حكى الإجماع القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية والشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع وذهب جماعة من أهل الظاهر منهم ابن حزم إلى وقوعه وهي رواية عن أحمد وذهب القاضي في التقريب والغزالي وأبو الوليد الباجي والقرطبي إلى التفصيل بين زمان النبي صلى الله عليه وسلم وما بعده فقالوا بوقوعه في زمانه‏.‏

احتج المانعون بأن الثابت قطعا لا ينسخه مظنون واستدل القائلون بالوقوع بما ثبت من أن أهل قباء لما سمعوا مناديه صلى الله عليه وسلم وهم في الصلاة يقول ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة فاستداروا ولم ينكر ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجيب بأنهم علموا بالقرائن واستدل أيضا القائلون بالوقوع بأنه صلى الله عليه وسلم كان يرسل رسله لتبليغ الأحكام وكانوا يبلغون الأحكام المبتدأة وناسخها ومن الوقوع نسخ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه‏}‏ الأية بنهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وهو آحاد وأجيب بأن المعنى لا أجد الآن والتحريم وقع في المستقبل ومن الوقوع نسخ نكاح المتعة بالنهي عنها وهو آحاد ونحو ذلك كثير ومما يرشدك إلى جواز النسخ بما صح من الآحاد لما هو أقوى متنا أو دلالة منها أن الناسخ في الحقيقة إنما رافعا لاستمرار حكم المنسوخ ودوامه وذلك ظني وإن كان دليله قطعيا فالمنسوخ إنما هو هذا الظني لا ذلك القطعي فتأمل هذا‏.‏

المسألة العاشرة‏:‏ ‏[‏نسخ القرآن بالسنة المتواترة‏]‏

يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة عند الجمهور، كما حكى ذلك عنهم أبو الطيب الطبري وابن برهان وابن الحاجب قال ابن فورك في شرح مقالات الأشعري وإليه ذهب شيخنا أبو الحسن الأشعري وكان يقول إن ذلك وجد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين‏}‏ فإنه منسوخ بالسنة المتواترة وهي قوله لا وصية لوارث لأنه لا يمكن أن يجمع بينهما‏.‏

قال ابن السمعاني وهو مذهب أبي حنيفة وعامة المتكلمين وقال سليم الرازي وهو قول أهل العراق قال وهو مذهب الأشعري والمعتزلة وسائر المتكلمين قال الدبوسي هو قول علمائنا يعني الحنفية‏.‏

قال الباجي قال به عامة شيوخنا وحكاه ابن الفرج عن مالك قال ولهذا لا تجوز عنده الوصية للوارث للحديث فهو ناسخ لقوله‏:‏ ‏{‏كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت‏}‏ الآية وذهب الشافعي في عامة كتبه كما قال ابن السمعاني إلى أنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة بحال وإن كانت متواترة وبه جزم الصيرفي والخفاف ونقله عبد الوهاب عن أكثر الشافعية‏.‏

وقال الأستاذ أبو منصور أجمع أصحاب الشافعي على المنع وهذا يخالف ما حكاه ابن فورك عنهم فإنه حكى عن أكثرهم القول بالجواز ثم اختلف المانعون فمنهم من منعه عقلا وشرعا ومنهم من منعه شرعا لا عقلا واستدل على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها‏}‏ الآية قالوا ولا تكون السنة خيرا من القرآن ومثله قالوا ولم نجد في القرآن آية منسوخة بالسنة وقد استنكر جماعة من العلماء ما ذهب إليه الشافعي من المنع حتى قال إلكيا الهراس‏:‏ هفوات الكبار على أقدراهم ومن عد خطؤه عظم قدره قال وقد كان عبد الجبار كثيرا ما ينظر مذهب الشافعي في الأصول والفروع فلما وصل إلى هذا الموضع قال هذا الرجل كبير ولكن الحق أكبر منه قال ولم نعلم أحدا منع من جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد عقلا فضلا عن المتواتر فلعله يقول دل عرف الشرع على المنع منه وإذا لم يدل قاطع من السمع توقفنا وإلا فمن الذي يقول إنه عليه السلام لا يحكم بقوله في نسخ ما ثبت في الكتاب وإن هذا مستحيل في العقل والمغالون في حب الشافعي لما رأوا هذا القول لا يليق بعلو قدره وهو الذي مهد هذا الفن ورتبه وأول من أخرجه قالوا لابد أن يكون لهذا القول من هذا العظيم محمل فتعمقوا في محامل ذكروها انتهى‏.‏

ولا يخفاك أن السنة شرع من الله عز وجل كما أن الكتاب شرع منه سبحانه وقد قال‏:‏ ‏{‏ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏ وأمر سبحانه باتباع رسوله في غير موضع في القرآن فهذا بمجرده يدل على أن السنة الثابتة عنه ثبوتا على حد ثبوت الكتاب العزيز حكمها حكم القرآن في النسخ وغيره وليس في العقل ما يمنع من ذلك ولا في الشرع وقوله‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها‏}‏ ليس فيه إلا ما يجعله الله منسوخا من الآيات القرآنية سيبدله بما هو خير منه أو بما هو مثله للمكلفين وما أتانا على لسان رسوله فهو كما أتانا منه كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إن هو إلا وحي يوحى‏}‏ وكما قال‏:‏ ‏{‏قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي‏}‏ قال أبو منصور البغدادي لم يرد الشافعي مطلق السنة بل أراد السنة المنقولة آحادا واكتفى بهذا الإطلاق لأن الغالب في السنة الآحاد‏.‏

قال الزركشي في البحر والصواب أن مقصود الشافعي أن الكتاب والسنة لا يوجدان مختلفين إلا ومع أحدهما مثله ناسخ له وهو تعظيم عظيم وأدب مع الكتاب والسنة وفهم لموقع أحدهما من الآخر وكل من تكلم في هذه المسألة لم يقع على مراد الشافعي بل فهموا خلاف مراده حتى غلظوه وأولوه انتهى ومن جملة ما قيل إن السنة فيه نسخت القرآن الآية المتقدمة أعني قوله‏:‏ ‏{‏كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت‏}‏ الآية وقوله‏:‏ ‏{‏وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما‏}‏ الآية فإنها منسوخة بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وقوله‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ فإنها منسوخة بأحاديث الدباغ على نزاع طويل في كون ما في هذه الآيات منسوخا بالسنة‏.‏

وأما نسخ السنة بالقرآن فذلك جائز عند الجمهور وبه قال بعض من منع من نسخ القرآن بالسنة وللشافعي في ذلك قولان حكاهما القاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وسليم الرازي وإمام الحرمين وصححوا جميعا الجواز‏.‏

قال ابن برهان هو قول المعظم وقال سليم هو قول عامة المتكلمين والفقهاء وقال السمعاني إنه الأولى بالحق وجزم به الصيرفي ولا وجه للمنع قط ولم يأت في ذلك ما يتشبث به المانع لا من عقل ولا من شرع بل ورد في الشرع نسخ السنة بالقرآن في غير موضع فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد نرى تقلب وجهك في السماء‏}‏ الآية كذلك نسخ صلحه صلى الله عليه وسلم لقريش على أن يرد لهم النساء بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا ترجعوهن إلى الكفار‏}‏ ونسخ تحليل الخمر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما الخمر والميسر‏}‏ الآية ونسخ تحريم المباشرة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالآن باشروهن‏}‏ ونسخ صوم يوم عاشوراء بقوله‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ ونحو ذلك مما يكثر تعداده‏.‏

المسألة الحادية عشرة‏:‏ ‏[‏نسخ القول بالفعل والعكس‏]‏

ذهب الجمهور إلى أن الفعل من السنة ينسخ القول كما أن القول ينسخ الفعل‏.‏

وحكى الماوردي والروياني عن ظاهر قول الشافعي أن القول لا ينسخ إلا بالقول وأن الفعل لا ينسخ إلا بالفعل ولا وجه لذلك فالكل سنة وشرع ولا يخالف في ذلك الشافعي ولا غيره وإذا كان كل واحد منهما شرعا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا وجه للمنع من نسخ أحدهما بالآخر ولا سيما وقد وقع ذلك في السنة كثيرا ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في السارق فإن عاد في الخامسة فاقتلوه ثم رفع إليه سارق في الخامسة فلم يقتله فكان هذا الترك ناسخا للقول وقال الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ثم رجم ماعزا ولم يجلده فكان ذلك ناسخا لجلد من ثبت عليه الرجم ومنه ما ثبت في الصحيح من قيامه صلى الله عليه وسلم للجنازة ثم ترك ذلك فكان نسخا وثبت عنه صلى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي ثم فعل غير ما كان يفعله وترك بعض ما كان يفعله فكان ذلك نسخا وهذا كثير في السنة لمن تتبعه ولم يأت المانع بدليل يدل على ذلك لا من عقل ولا من شرع وقد تابع الشافعي في المنع من نسخ الأقوال بالأفعال ابن عقيل من الحنابلة وقال الشيء إنا ينسخ بمثله أو بأقوى منه يعني والقول أقوى من الفعل‏.‏

المسألة الثانية عشرة‏:‏ ‏[‏في أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به‏]‏

الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به عند الجمهور؛ إما كونه لا ينسخ فلأن الإجماع لا يكون إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والنسخ لا يكون بعد موته وأما في حياته فالإجماع لا ينعقد بدونه بل يكون قولهم المخالف لقوله لغوا باطلا لا يعتد به ولا يلتفت إليه وقولهما الموافق بعد لا اعتبار به بل الاعتبار بقوله وحده والحجة فيه لا في غيره فإذا عرفت هذا علمت أن الإجماع لا ينعقد إلا بعد أيام النبوة وبعد أيام النبوة قد انقطع الكتاب والسنة فلا يمكن أن يكون الناسخ منهما ولا يمكن أن يكون الناسخ للإجماع إجماعا آخر لأن هذا الإجماع الثاني إن كان لا عن دليل فهو خطأ وإن كان عن دليل فذلك يستلزم أن يكون الإجماع الأول خطأ والإجماع لا يكون خطأ فبهذا يستحيل أن يكون الإجماع ناسخا أو منسوخا ولا يصلح أيضا أن يكون الإجماع منسوخا بالقياس لأن من شرط العمل به أن لا يكون مخالفا للإجماع وقد استدل من جوز ذلك بما قيل من أن الأمة إذا اختلفت على قولين فهو إجماع على أن المسألة اجتهادية يجوز الأخذ بكليهما ثم يجوز إجماعهم على أحد القولين كما مر في الإجماع فإذا أجمعوا بطل الجواز الذي هو مقتضى ذلك الإجماع وهذا هو النسخ وأجب بأنا لا نسلم ذلك لوقوع الخلاف فيه كما تقدم ولو سلم فلا يكون نسخا لما تقدم من أن الإجماع الأول مشروط بعدم الإجماع الثاني‏.‏

وقال الشريف المرتضى إن دلالة الإجماع مستقرة في كل حال قبل انقطاع الوحي وبعده قال فالأقرب أن يقال إن الأمة أجمعت على أن ما ثبت بالإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به أي لا يقع ذلك لا أنه غير جائز ولا يلتفت إلى قول عسى بن أبان إن الإجماع ناسخ لما وردت به السنة من وجوب الغسل من غسل الميت انتهى‏.‏

قال الصيرفي ليس للإجماع حظ في نسخ الشرع لأنهم لا يشرعون ولكن إجماعهم يدل على الغلط في الخبر أو رفع حكمه لا أنهم رفعوا الحكم وإنما هم أتباع لما أمروا به وقال بعض الحنابلة يجوز النسخ بالإجماع لكن لا بنفسه بل بسنده فإذا رأينا متنا صحيحا والإجماع بخلافه استدللنا بذلك على نسخ وأن أهل الإجماع اطلعوا على ناسخ وإلا لما خالفوه‏.‏

وقال ابن حزم جوز بعض أصحابنا أن يرد حديث صحيح والإجماع على خلافه قال وذلك دليل على أنه منسوخ قال وهذا عندنا غلط فاحش لأن ذلك معدوم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ وكلام الرسول وحي محفوظ انتهى وممن جوز كون الإجماع ناسخا الحافظ البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه ومثله بحديث الوادي الذي في الصحيح حين نام رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أيقظهم إلا حر الشمس وقال في آخره فإذا سها أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها ومن الغد للوقت قال فإعادة الصلاة المنسية بعد قضائها حال الذكر وفي الوقت منسوخ بإجماع المسلمين لا يجب ولا يستحب‏.‏

المسألة الثالثة عشرة‏:‏ ‏[‏في أن القياس لا يكون ناسخا‏]‏

ذهب الجمهور إلى أن القياس لا يكون ناسخا‏.‏

ونقله القاضي أبو بكر في التقريب عن الفقهاء والأصوليين قالوا لا يجوز نسخ شيء من القرآن والسنة بالقياس لأن القياس يستعمل مع عدم النص فلا يجوز أن ينسخ النص ولأنه دليل محتمل والنسخ يكون بأمر مقطوع ولأن شرط القياس أن لا يكون في الأصول ما يخالفه ولأنه إن عارض نصا أو إجماعا فالقياس فاسد الوضع وإن عارض قياسا آخر فتلك المعارضة إن كانت بين أصلي القياس فهذا يتصور فيه النسخ قطعا إذ هو من باب نسخ النصوص وإن كانت بين العلتين فهو من باب المعارضة في الأصل والفرع لا من باب القياس‏.‏

قال الصيرفي لا يقع النسخ إلا بدليل توقيفي ولا حظ للقياس فيه أصلا وحكى القاضي أبو بكر عن بعضهم أن القياس ينسخ به المتواتر ونص القرآن وحكى عن آخرين أنه مما ينسخ به أخبار الآحاد فقط‏.‏

وحكى الأستاذ أبو منصور عن أبي القاسم الأنماطي إذا كانت علته منصوصة لا مستنبطة وجعل الهندي محل الخلاف في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأما بعده فلا ينسخ به الاتفاق وأما كونه منسوخا فلا شك أن القياس يكون منسوخا بنسخ أصله وهل يصح نسخه مع بقاء أصله في ذلك خلاف الحق منعه وبه قال قوم من الأصوليين‏.‏

وقال آخرون إنه يجوز نسخه في زمن الرسول بالكتاب والسنة والقياس وأما بعد موته فلا ورجحه صاحب المحصول وجماعة من الشافعية‏.‏

المسألة الرابعة عشرة‏:‏ في نسخ المفهوم

وقد تقدم تقسيمه إلى مفهوم مخالفة ومفهوم موافقة‏:‏

أما مفهوم المخالفة فيجوز ذلك مع نسخ أصله وذلك ظاهر ويجوز نسخه بدون نسخ أصله وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم الماء من الماء فإنه نسخ مفهومه بما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم إذا قعد بين شعبها الأربع وجدها فقد وجب الغسل وفي لفظ إذا لاقى الختان الختان فهذا نسخ مفهوم الماء من الماء وبقي منطوقه محكما غير منسوخ لأن الغسل واجب من الإنزال بلا خلاف وأما النسخ الأصل دون المفهوم ففي جوازه احتمالان ذكرهما الصفي الهندي قال والأظهر أنه لا يجوز قال سليم الرازي في التقريب من أصحابنا من قال يجوز أن يسقط اللفظ ويبقى دليل الخطاب والمذهب أنه لا يجوز ذلك لأن الدليل إنما هو تابع للفظ يستحيل أن يسقط الأصل ويكون الفرع باقيا‏.‏

وأما مفهوم الموافقة فاختلفوا هل يجوز نسخه وللنسخ به أم لا أما جواز النسخ به فجزم القاضي بجوازه في التقريب وقال لا فرق في جواز النسخ بما اقتضاه نص الكتاب وظاهره جوازه بما اقتضاه فحواه ولحنه ومفهومه وما أوجبه العموم ودليل الخطاب عند مثبتها لأنه كالنص أو أقوى منه انتهى وكذا جزم بذلك ابن السمعاني قال لأنه مثل النطق وأقوى ونقل الآمدي والفخر الرازي الاتفاق على أنه ينسخ به ما ينسخ بمنطوقه‏.‏

قال الرزكشي في البحر وهو عجيب فإن في المسألة وجهين لأصحابنا وغيرهم حكاهما الماوردي في الحاوي والشيخ أبو إسحاق في اللمع وسليم الرازي وصححوا المنع والماوردي نقله عن الأكثرين قال لأن القياس فرع النص الذي هو أقوى فلا يجوز أن يكون ناسخا له قال والثاني وهو اختيار ابن أبي هريرة وجماعة الجواز وأما جواز نسخه فهو ينقسم إلى قسمين‏:‏ الأول أن ينسخ مع بقاء أصله والثاني أن ينسخ تبعا لأصله ولا شك في جواز الثاني وأما الأول فقد اختلف فيه الأصوليون على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ الجواز وبه قال أكثر المتكلمين وجعلوه مع أصله كالنصين يجوز نسخ أحدهما مع بقاء الآخر ونقله سليم عن الأشعري وغيره من المتكلمين بناء على أصلهم أن ذلك مستفاد من اللفظ فكانا بمنزلة لفظين فجاز نسخ أحدهما مع بقاء حكم الآخر‏.‏

القول الثاني‏:‏ المنع وصححه سليم الرازي وجزم به الروياني والماوردي ونقله ابن السمعاني عن أكثر الفقهاء لأن ثبوت لفظه موجب لفحواه مفهومه فلم يجز نسخ الفحوى مع بقاء موجبه كما لا ينسخ القياس مع بقاء أصله وذهب بعض المتأخرين إلى التفصيل فقال إن كان علة المنطوق لا تحتمل النقص جاز كما لو قال لغلامه لا تعط زيدا درهما قاصدا بذلك حرمانه ثم يقول أعطه أكثر من درهم ولا تعطه درهما لاحتمال أنه انتقل من علة حرمانه إلى علة مواساته وهذا التفصيل قوي جدا‏.‏

المسألة الخامسة عشرة‏:‏ في الزيادة على النص هل تكون نسخا لحكم النص أم لا

وذلك يختلف باختلاف الصور فالزائد إما أن يكون مستقلا بنفسه أولا‏.‏

الأول‏:‏ المستقل إما أن يكون من غير جنس الأول كزيادة وجوب الزكاة علىالصلاة فليس بناسخ لما تقدم من العبادات بلا خلاف قال في المحصول اتفق العلماء على أن زيادة عبادة على العبادات لا تكون نسخا للعبادات انتهى ومعلوم أنه لا يخالف في مثل هذا أحد من أهل الإسلام لعدم التنافي وأما أن يكون من جنسه كزيادة صلاة على الصلوات الخمس فهذا ليس بنسخ على قول الجمهور وذهب بعض أهل العراق إلى أنها تكون نسخا لحكم المزيد عليه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏}‏ لأنها تجعلها غير الوسطى وهو قول باطل لا دليل عليه ولا شبهة دليل فإن الوسطى ليس المراد بها المتوسطة في العدد بل يراد بها الفاضلة ولو سلمنا أن المراد بها المتوسطة في العدد لم تكن تلك الزيادة مخرجة لها عن كونها مما يحافظ عليه فقد علم توسطها عند نزول الآية وصارت مستحقة لذلك الوصف وإن خرجت عن كونها وسطى قال القاضي عبد الجبار ويلزمهم زيادة عبادة على العبادة الأخيرة لأن هذه المزيدة تصير أخيرة وتجعل تلك التي كانت أخيرة غير أخيرة وهو خلاف الإجماع وألزمهم صاحب المحصول بأنه لو كان عدد كل الواجبات قبل الزيادة عشرة فبعد الزيادة لا يبقى ذلك العدد فيكون نسخا يعني وهو خلاف الإجماع‏.‏

الثاني‏:‏ الذي لا يستقل كزيادة ركعة على الركعات وزيادة التغريب على الجلد وزيادة وصف الرقبة بالإيمان وقد اختلفوا فيه على أقوال‏:‏

الأول‏:‏ أن ذلك لا يكون نسخا مطلقا وبه قالت الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم ومن المعتزلة علي وأبو هاشم سواء اتصلت بالمزيد عليه أولا ولا فرق بين أن تكون هذه الزيادة مانعة من أجزاء المزيد عليه بدونها أو غير مانعة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها نسخ وهو قول الحنفية قال شمس الأئمة السرخسي وسواء كانت الزيادة في السبب أو في الحكم قال ابن السمعاني أما أصحاب أبي حنيفة فقالوا إن الزيادة على النص بعد استقرار حكمة توجب النسخ حكاه الصيمري عن أصحابه على الإطلاق واختاره بعض أصحابنا قال ابن فورك وإلكيا وعزى إلى الشافعي أيضا‏.‏

الثالث‏:‏ إن كان المزيد عليه بنفي الزيادة بفحواه فإن تلك الزيادة نسخ كقوله في سائمة الغنم الزكاة فإنه يفيد نفي الزكاة عن المعلوفة وإن كان لا ينفي تلك الزيادة فلا يكون نسخا حكاه ابن برهان وصاحب المعتمد وغيرهما‏.‏

الرابع‏:‏ أن الزيادة إن غيرت المزيد عليه تغيرا شرعيا حتى صار لو فعل بعد الزيادة على حد ما كان يفعلها قبلها لم يعتد به وذلك كزيادة ركعة تكون نسخا وإن كان المزيد عليه يصح فعله بدون الزيادة لم تكن نسخا كزيادة التغريب على الجلد وإليه ذهب عبد الجبار كما حكاه عنه صاحب المعتمد وابن الحاجب وغيرهما وحكاه سليم عن اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني والاستراباذي والبصري‏.‏

الخامس‏:‏ التفصيل بين أن تتصل به فهي نسخ وبين أن تنفصل عنه فلا تكون نسخا حكاه ابن برهان عن عبد الجبار أيضا واختاره الغزالي‏.‏

السادس‏:‏ إن تكن الزيادة مغيرة لحكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخا إن لم تغير حكمه في المستقبل بأن كانت مقارنة لم تكن نسخا حكاه ابن فورك عن أصحاب أبي حنيفة قال صاحب المعتمد وبه قال شيخنا أبو الحسن الكرخي وأبو عبد الله البصري‏.‏

السابع‏:‏ أن الزيادة إن رفعت حكما عقليا أو ما ثبت باعتبار الأصل كبراءة الذمة لم تكن نسخا لأنا لا نعتقد أن العقل يوجب الأحكام ومن يعتقد إيجابه لا يعتقد أن رفعها يكون نسخا وإن تضمنت رفع حكم شرعي كانت نسخا حكى هذا التفصيل ابن برهان في الأوسط عن أصحاب الشافعي وقال أنه الحق واختاره الآمدي وابن الحاجب والفخر الرازي والبيضاوي وهو اختيار أبي الحسين البصري في المعتمد وهو ظاهر كلام القاضي أبي بكر الباقلاني في مختصر التقريب وظاهر كلام إمام الحرمين الجويني في البرهان قال الصفي الهندي إنه أجود الطرق وأحسنها فهذه الأقوال كما ترى‏.‏

قال بعض المحققين إن هذه التفاصيل لا حاصل لها وليست في محل النزاع فإنه لا ريب عند الكل أن ما رفع حكما شرعيا كان نسخا حقيقة وليس الكلام هنا في مقام أن النسخ رفع أو بيان وما لم يكن كذلك فليس بنسخ فإن القائل إنما فصل بين ما رفع حكما شرعيا وما لا يرفع كأنه قال إن كانت الزيادة نسخا وإلا فلا وهذا لا حاصل له وإنما النزاع منهم هل ترفع حكما شرعيا فتكون نسخا أو لا فلا تكون نسخا فلو وقع الاتفاق على أنها ترفع حكما شرعيا لوقع الاتفاق على أنها ليست بنسخ ولكن النزاع في الحقيقة إنما هو في أنها رفع أم لا انتهى‏.‏

قال الزركشي في البحر واعلم أن فائدة هذه المسألة أن ما ثبت أنه من باب النسخ وكان مقطوعا به فلا ينسخ إلا بقاطع كالتغريب فإن أبا حنيفة لما كان عنده نسخا نفاه لأنه نسخ للقرآن بخبر الواحد ولما لم يكن عند الجمهور نسخا قبلوه إذ لا معارضة وقد ردوا يعني الحنفية بذلك أخبارا صحيحة لما اقتضت زيادة على القرآن والزيادة نسخ ولا يجوز نسخ القرآن بخبر الواحد فردوا أحاديث تعين الفاتحة في الصلاة وما ورد في الشاهد واليمين وما ورد في أيمان الرقبة وما ورد في اشتراط النية في الوضوء انتهى وإذا عرفت أن هذه هي الفائدة في هذه المسألة التي طالت ذيولها وكثرت شعبها هان عليك الخطب وقد قدمنا في المسألة التاسعة من مسائل هذا الباب ما عرفته‏.‏

المسألة السادسة عشرة‏:‏ ‏[‏في نسخ ما يتوقف عليه صحة العبادة‏]‏

لا خلاف في أن النقصان من العبادة نسخ لما أسقط منها؛ لأنه كان واجبا في جملة العبادة ثم أزيل وجوبه ولا خلاف أيضا في أن ما لا يتوقف عليه صحة العبادة لا يكون نسخه نسخا لها كذا نقل الإجماع الآمدي والفخر الرازي وأما نسخ ما يتوقف عليه صحة العبادة سواء كان جزءا لها كالشطر أو خارجا كالشرط فاختلفوا فيه على مذاهب‏:‏

الأول‏:‏ أن نسخه لا يكون نسخا للعبادة بل يكون بمثابة تخصيص العام قال ابن برهان وهو قول علمائنا وقال ابن السمعاني إليه ذهب الجمهور من أصحاب الشافعي واختاره الفخر الرازي والآمدي قال الأصفهاني إنه الحق وحكاه صاحب المعتمد عن الكرخي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه نسخ للعبادة وإليه ذهب الحنفية كما حكاه عنهم ابن برهان وابن السمعاني‏.‏

الثالث‏:‏ التفصيل بين الشرط فلا يكون نسخه نسخا للعبادة وبين الجزء كالقيام والركوع في الصلاة فيكون نسخه نسخا لها وإليه ذهب القاضي عبد الجبار ووافقه الغزالي وصححه القرطبي قالوا لأن الشرط خارج عن ماهية المشروط بخلاف الجزء وهذا في الشرط المتصل أما الشرط المنفصل فقيل لا خلاف في أن نسخه ليس بنسخ للعبادة لأنهما عبادتان منفصلتان وقيل إن كان مما لا تجزئ العبادة قبل النسخ إلا به فيكون نسخه نسخا لها من غير فرق بين الشرط والجزاء وإن كان مما تجزئ العبادة قبل النسخ بدونه فلا يكون نسخه نسخا لها وهذا هو المذهب الرابع حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع‏.‏

احتج القائلون بأنه لا يكون نسخا مطلقا من غير فرق بين الشرط والشطر بأنهما أمران فلا يقتضي نسخ أحدهما نسخ الآخر وأيضا لو كان نسخا للعبادة لافتقرت في وجوبها إلى دليل آخر غير الدليل الأول وأنه باطل بالاتفاق واحتج القائلون بأن نسخ الشطر يقتضي نسخ العبادة دون نسخ الشرط بأن نقصان الركعة من الصلاة يقتضي رفع وجوب تأخير التشهد ورفع أجزائها من دون الركعة لأن تلك العبادة قبل النسخ كانت غير مجزئه بدون الركعة وأجيب بأن للباقي من العبادة أحكاما مغايرة لأحكامها قبل رفع ذلك الشطر فكان النسخ مغايرا لنسخ تلك العبادة وأيضا الثابت في الباقي هو الوجوب الأصلي والزيادة باقية على الجواز الأصلي وإنما الزائل وجوبها فارتفع حكم شرعي لا إلى حكم شرعي فلا يكون ذلك نسخا‏.‏

المسألة السابعة عشرة‏:‏ في الطريق التي يعرف بها كون الناسخ ناسخا

وذلك أمور‏:‏

الأول‏:‏ أن يقتضي ذلك اللفظ بأن يكون فيه ما يدل على ما تقدم أحدهما وتأخر الآخر قال الماوردي المراد بالتقدم التقدم في النزول لا في التلاوة فإن العدة بأربعة شهور وعشرة سابقة على العدة بالحول في التلاوة مع أنها ناسخة لها ومن ذلك التصريح في اللفظ بما يدل على النسخ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الآن خفف الله عنكم‏}‏ فإنه يقتضي نسخه لثبات الواحد للعشرة ومثل قوله‏:‏ ‏{‏أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ أن يعرف الناسخ من المنسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم كأن يقول هذا ناسخ لهذا أو ما في معنى ذلك كقوله‏:‏ «نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها»‏.‏

الثالث‏:‏ أن يعرف ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم كرجمه لماعز ولم يجلده فإنه يفيد نسخ قوله الثيب بالثيب جلد مائة ورجمه بالحجارة قال ابن السمعاني وقد قالوا إن الفعل لا ينسخ القول في قول أكثر الأصوليين وإنما يستدل بالفعل على تقدم النسخ للقول بقول آخر فيكون القول منسوخا بمثله من القول والفعل مبين لذلك‏.‏

الرابع‏:‏ إجماع الصحابة على أن هذا ناسخ وهذا منسوخ كنسخ صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان ونسخ الحقوق المتعلقة بالمال بالزكاة ذكر معنى ذلك ابن السمعاني قال الزركشي وكذا حديث من غل صدقته فقال صلى الله عليه وسلم أن آخذوها وشطر ماله قال فإن الصحابة اتفقت على ترك استعمالهم لهذا الحديث فدل ذلك على نسخه انتهى وقد ذهب الجمهور إلى أن إجماع الصحابة من أدلة بيان الناسخ والمنسوخ قال القاضي يستدل بالإجماع على أن معه خبرا وقع به النسخ لأن الإجماع لا ينسخ به ولم يجعل الصيرفي الإجماع دليلا على تعين النص للنسخ بل جعله مترددا بين النسخ والغلط‏.‏

الخامس‏:‏ نقل الصحابي لتقدم أحد الحكمين وتأخر الآخر إذ لا مدخل للاجتهاد فيه قال ابن السمعاني وهو واضح إذا كان الخبران غير متواترين أما إذا قال في المتواتر أنه كان قبل الآحاد ففي ذلك خلاف وجزم القاضي في التقريب بأنه لا يقبل ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين لأنه يتضمن نسخ المتواتر بالآحاد وهو غير جائز وقال القاضي عبد الجبار يقبل وشرط ابن السمعاني كون الراوي لهما واحد‏.‏

السادس‏:‏ كون أحد الحكمين شرعيا والآخر موافقا للعادة فيكون الشرعي ناسخا وخالف في ذلك القاضي أبو بكر والغزالي لأنه يجوز ورود الشرع بالنقل عن العادة ثم يرد نسخه ورده إلى مكانه وأما حداثة الصحابي وتأخر إسلامه فليس ذلك من دلائل النسخ وإذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ بوجه من الوجوه فرجح قوم منهم ابن الحاجب الوقف وقال الآمدي إن علم افتراقهما مع تعذر الجمع بينهما فعندي أن ذلك غير متصور الوقوع وإن جوزه قوم وبتقدير وقوعه فالواجب أما الوقف عن العمل بأحدهما أو التخيير بينهما إن أمكن وكذلك الحكم فيما إذا لم يعلم شيء من ذلك‏.‏

المقصد الخامس من مقاصد هذا الكتاب‏:‏ القياس وما يتصل به من الاستدلال المشتمل على التلازم والاستصحاب وشرع من قبلنا والاستحسان والمصالح المرسلة ثم ما له اتصال بالاستدلال

وفيه فصول سبعة‏:‏

الفصل الأول في تعريفه

وهو في اللغة تقدير شيء على مثال شيء آخر وتسويته به ولذلك سمي المكيال مقياسا وما يقدر به النعال مقياسا ويقال فلان لا يقاس بفلان أي لا يساويه وقيل هو مصدر قست الشيء إذا اعتبرته أقيسه قيسا وقياسا ومنه قيس الرأي وسمي امرؤ القيس لاعتبار الأمور برأيه وذكر صاحب الصحاح وابن أبي البقاء فيه لغة بضم القاف يقال قسته أقوسه قوسا هو على اللغة الأولى من ذوات الياء وعلى اللغة الثانية من ذوات الواو وفي الاصطلاح حمل معلوم على علوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة كذا قال القاضي أبو بكر الباقلاني قال في المحصول واختاره جمهور المحققين منا وإنما قال معلوم ليتناول الموجود والمعدوم فإن القياس يجري فيهما جميعا‏.‏

واعترض عليه بأنه إن أريد بحمل أحد المعلومين على الآخر إثبات مثل حكم أحدهما للآخر فقوله بعد ذلك في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما إعادة لذلك فيكون تكرارا من غير فائدة واعترض عليه أيضا بأن قوله في إثبات حكم لهما مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع ثبت بالقياس وهو باطل فإن المعتبر في ماهية القياس إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر بأمر جامع واعترض عليه بأن إثبات لفظ أو في الحد للإبهام وهو ينافي التعيين الذي هو مقصود الحد‏.‏

وقال جماعة من المحققين أنه مساواة فرع لأصل في علة الحكم أو زيادة عليه في المعنى المعتبر في الحكم‏.‏

وقال أبو الحسين البصري وهو تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد وقيل إدراج خصوص في عموم وقيل إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به وقيل إلحاق المختلف فيه بالمتفق عليه وقيل استنباط الخفي من الجلي وقيل حمل الفرع على الأصل ببعض أوصاف الأصل وقيل حمل الشيء على غيره وإجراء أحدهما على الآخر وقيل بذل الجهد في طلب الحق وقيل حمل الشيء على غيره وإجراء حكمه عليه وقيل حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من الشبه وعلى كل حد من هذه الحدود اعتراضات يطول الكلام بذكرها وأحسن ما يقال في حده استخراج مثل حكم المذكور لما لم يذكر بجامع بينهما فتأمل هذا تجده صوابا إن شاء الله‏.‏

وقال إمام الحرمين يتعذر الحد الحقيقي في القياس لاشتماله على حقائق مختلفة كالحكم فإنه قديم والفرع والأصل فإنهما حادثان والجامع فإنه علة ووافقه ابن المنير على ذلك وقال ابن الأنباري الحقيقي إنما يتصور فيما يتركب من الجنس والفصل ولا يتصور ذلك في القياس‏.‏

قال الأستاذ أبو إسحاق اختلف أصحابنا فيما وضع له اسم القياس على قولين أحدهما أنه استدلال المجتهد وفكرة المستنبط والثاني أنه المعنى الذي يدل على الحكم في أصل الشيء وفرعه قال وهذا هو الصحيح انتهى واختلفوا في موضوع القياس قال الروياني وموضوعه طلب أحكام الفروع المسكوت عنها من الأصول المنصوصة بالعلل المستنبطة من معانيها ليلحق كل فرع بأصله وقيل غير ذلك مما هو دون ما ذكرناه‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ في حجة القياس

اعلم أنه قد وقع الاتفاق على أنه حجة في الأمور الدنيوية قال الفخر الرازي كما في الأدوية والأغذية وكذلك اتفقوا على حجية القياس الصادر منه صلى الله عليه وسلم وإنما وقع الخلاف في القياس الشرعي فذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين إلى أنه أصل من أصول الشريعة يستدل به على الأحكام التي يرد بها السمع قال في المحصول اختلف الناس في القياس الشرعي فقالت طائفة العقل يقتضي جواز التعبد به في الجملة وقالت طائفة العقل يقتضي المنع من التعبد به والأولون قسمان منهم من قال وقع التعبد به ومنهم من قال لم يقع‏.‏

أما من اعترف بوقوع التعبد به فقد اتفقوا على أن السمع دال عليه ثم اختلفوا في ثلاثة مواضع‏:‏ الأول أنه هل في العقل ما يدل عليه فقال القفال منا وأبو الحسين البصري من المعتزلة العقل يدل على وجوب العمل به وأما الباقون منا ومن المعتزلة فقد أنكروا ذلك والثاني أن أبا الحسين البصري زعم أن دلالة الدلائل السمعية عليه ظنية والباقون قالوا قطعية والثالث أن القاساني والنهرواني ذهبا إلى العمل بالقياس في صورتين‏:‏ إحداهما إذا كانت العلة منصوصة بصريح اللفظ أو بإيمائه والصورة الثانية كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف وأما جمهور العلماء فقد قالوا بسائر الأقسية‏.‏

وأما القائلون بأن التعبد لم يقع به فمنهم من قال لم يوجد في السمع ما يدل على وقوع التعبد به فوجب الامتناع من العمل به ومنهم من لم يقنع بذلك بل تمسك في نفيه بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة وإجماع العترة وأما القسم الثاني‏:‏ وهم الذين قالوا بأن العقل يقتضي المنع من التعبد به فهم فريقان أحدهما خصص ذلك المنع بشرعنا وقال لأن مبنى شرعنا الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات وذلك يمنع من القياس وهو قول النظام والفريق الثاني‏:‏ الذين قالوا يمتنع ورود التعبد به في كل الشرائع انتهى‏.‏

قال الأستاذ أبو منصور‏:‏ المثبتون للقياس اختلفوا فيه على أربعة مذاهب أحدهما ثبوته في العقليات والشرعيات وهو قول أصحابنا من الفقهاء والمتكلمين وأكثر المعتزلة والثاني في العقليات دون الشرعيات وبه قال جماعة من أهل الظاهر والثالث نفيه في العلوم العقلية وثبوته في الأحكام الشرعية التي ليس فيها نص ولا إجماع وبه قال طائفة من القائلين بأن المعارف ضرورية والرابع نفيه في العقليات والشرعيات وبه قال أبو بكر بن داود الأصفهاني انتهى والمثبتون له اختلفوا أيضا‏.‏

قال الأكثرون هو دليل بالشرع وقال القفال وأبو الحسين البصري هو دليل بالعقل والأدلة السمعية وردت مؤكدة له وقال الدقاق يجب العمل به بالعقل والشرع وجزم به ابن قدامة في الروضة وجعله مذهب أحمد بن حنبل لقوله لايستغني أحد عن القياس‏.‏

قال وذهب أهل الظاهر والنظام إلى امتناعه عقلا وشرعا وإليه ميل أحمد بن حنبل لقوله يجتنب المتكلم في الفقه المجمل والقياس وقد تأوله القاضي ابو يعلى على ما إذا كان القياس مع وجود النص لأنه حينئذ يكون فاسد الاعتبار ثم اختلف القائلون به أيضا اختلافا آخر وهو دلالة السمع عليه قطعية أو ظنية‏؟‏ فذهب الأكثرون إلى الأول وذهب أبو الحسين والآمدي إلى الثاني‏.‏

وأما المنكرون للقياس فأول من باح بإنكار النظام وتابعه قوم من المعتزلة كجعفر بن حرب وجعفر بن حبشة ومحمد بن عبدالله الاسكافي وتابعهم على نفيه في الأحكام داود الظاهري‏.‏

قال أبو القاسم البغدادي فيما حكاه عنه ابن عبد البر في كتاب جامع العلم ما علمت أحدا سبق النظام إلى القول بنفي القياس قال ابن عبد البر في كتاب جامع العلم أيضا لاخلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السنة في نفي القياس في التوحيد وإثباته في الأحكام إلا داود فإنه نفاه فيهما جميعا قال ومنهم من أثبته في التوحيد ونفاه في الأحكام وحكى القاضي أبو الطيب الطبري عن داود النهرواني والمغربي والقاساني أن القياس محرم بالشرع قال الأستاذ أبو منصور أما داود فزعم أنه لا حادثة إلا وفيها حكم منصوص عليه في القرآن أو السنة أو معدول عنه بفحوى النص ودليله وذلك يغنى عن القياس‏.‏

قال ابن القطان ذهب داود وأتباعه إلى أن القياس في دين الله باطل ولا يجوز القول به قال ابن حزم في الأحكام ذهب أهل الظاهر إلى إبطال القول بالقياس جملة وهو قولنا الذي ندين الله به والقول بالعلل باطل انتهى والحاصل أن داود الظاهري وأتباعه لايقولون بالقياس ولو كانت العلة منصوصة ونقل القاضي ابو بكر والغزالي عن القاساني والنهرواني القول به فيما كانت العلة منصوصة‏.‏

وقد استدل المانعون من القياس بأدلة عقلية ونقلية ولا حاجة لهم إلى الاستدلال فالقيام في مقام المنع يكفيهم وإيراد الدليل على القائلين به وقد جاؤوا بأدلة عقلية لا تقوم بها الحجة فلا نطول البحث بذكرها وجاءوا بأدلة نقلية فقالوا دل على ثبوت التعبد بالقياس الشرعي الكتاب والسنة والإجماع‏.‏

أما الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعتبروا يا أولي الأبصار‏}‏ ووجه الاستدلال بهذه الآية أن الاعتبار مشتق من العبور وهو المجاوزة يقال عبرت على النهر والمعبر الموضع الذي يعبر عليه والمعبر السفينة التي يعبر فيها أداة العبور والعبرة الدمعة التي عبرت من الجفن وعبر الرؤيا جاوزها إلى ما يلازمها قالوا فثبت بهذه الاستعمالات أن الاعتبار حقيقة في المجاوزة فوجب أن لا يكون حقيقة في غيرها دفعا للاشتراك والقياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع فكان داخلا تحت الأمر قال في المحصول فإن قيل لا نسلم أن الاعتبار هو المجاوزة فقط بل هو عبارة عن الألفاظ بوجوه‏:‏ الأول أنه لا يقال لمن يستعمل القياس العقلي إنه معتبر الثاني أن المتقدم في إثبات الحكم من طريق القياس إذا لم يفكر في أمر معاده يقال إنه غير معتبر أو قليل الاعتبار الثالث قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار‏}‏ ‏{‏وإن لكم في الأنعام لعبرة‏}‏ والمراد الأتعاظ الرابع يقال السعيد من اعتبر بغيره والأصل في الكلام الحقيقة فهذه الأدلة تدل على أن الاعتبار حقيقة في الألفاظ لا في المجاوزة فحصل التعارض بين ما قلتم وما قلنا فعليكم بالترجيح معنا فإن الفهم أسبق إلى ما ذكرناه سلمنا أن ما ذكرتموه حقيقة لكن شرط حمل اللفظ على الحقيقة أن لا يكون هناك ما يمنع فإنه لو قال يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البركان ذلك ركيكا لا يليق بالشرع وإذا كان كذلك ثبت أنه وجد ما يمنع من حمل اللفظ على حقيقة سلمنا أنه لا مانع من حمله على المجاوزة لكن لا نسلم أن الأمر بالمجاوزة أمر بالقياس الشرعي بيانه أن كل من تمسك بدليل على مدلوله فقد عبر من الدليل إلى المدلول فمسمى الاعتبار مشترك فيه بين الاستدلال بالدليل العقلي القاطع وبالنص وبالبراءة الأصلية وبالقياس من الشرع وكل واحد من هذه الأنواع يخالفه الآخر بخصوصيته وما به الاشتراك غير دال على ما به الامتياز لا بلفظه ولا بمعناه فلا يكون دالا على النوع الذي ليس إلا عبارة من مجموع جهة الاشتراك‏.‏

قال وأيضا فنحن نوجب اعتبارات أخر‏:‏ الأول إذا نص الشارع على علة الحكم فهاهنا القياس عندنا واجب والثاني قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف والثالث الأقيسة في الأمور الدنيا فإن العمل بها عندنا واجب والرابع أن يشبه الفرع بالأصل في أن لا نستفيد حكمه إلا من النص والخامس الاتعاظ والانزجار بالقصص والأمثال فثبت بما تقدم أن الآتي بفرد من أفراد ما يسمى اعتبارا يكون خارجا عن عهدة هذا الأمر وثبت أن بيانه في صور كثيرة فلا يبقى فيه دلالة ألبته على الأمر بالقياس الشرعي ثم قلنا جعله حقيقة في المجاوزة أولى لوجهين‏:‏ الأول أنه يقال فلان اعتبر فاتعظ فيجعلون الاتعاظ معلول الاعتبار وذلك يوجب التغاير الثاني أن معنى المجاوزة حاصل في الاتعاظ فإن الانسان ما لم يستدل بشيء آخر على حال نفسه لا يكون متعظا ثم أطال في تقرير هذا بما لا طائل تحته‏.‏

ويجاب عن الوجه الأول بالمعارضة فإنه يقال فلان قاس هذا على هذا فاعتبر والجواب الجواب ويجاب عن الثاني بمنع وجود معنى المجاوزة في الاتعاظ فإن من نظر في شيء من المخلوقات فاتعظ به لا يقال فيه متصف بالمجاوزة لا لغة ولا شرعا ولا عقلا وأيضا يمنع وجود المجاوزة في القياس الشرعي وليس ما يفيد ذلك البتة ولو كان القياس مأمورا به في هذه الآية لكونه فيه معنى الاعتبار لكان كل اعتبار أو عبور مأمورا به واللازم باطل والملزوم مثله وبيانه أنه لم يقل أحد من المتشرعين ولا من العقلاء إنه يجب على الإنسان أن يعبر من هذا المكان إلى هذا المكان أو يجري دمع عينه أو يعبر رؤيا الرائي مع أن هذه الأمور أدخل في معنى العبور والاعتبار من القياس الشرعي والحاصل أن هذه الآية لا تدل على القياس الشرعي لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ومن أطال الكلام في الاستدلال بها على ذلك فقد شغل الحيز بما لا طائل تحته‏.‏

واستدل الشافعي في الرسالة على إثبات القياس بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجزاء مثل ما قتل من النعم‏}‏ قال فهذا تمثيل الشيء يعدله وقال‏:‏ ‏{‏يحكم به ذوا عدل منكم‏}‏ وأوجب المثل ولم يقل أي مثل فوكل ذلك إلى اجتهادنا ورأينا وأمر بالتوجه إلى القبلة بالاستدلال وقال‏:‏ ‏{‏وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره‏}‏ انتهى‏.‏

ولا يخفاك أن غاية ما في آية الجزاء هو المجيء بمثل ذلك الصيد وكونه مثلا له موكول إلى العدلين ومفوض إلى اجتهادهما وليس في هذا دليل على القياس الذي هو إلحاق فرع بأصل العلة جامعة وكذلك الأمر بالتوجه إلى القبلة فليس فيه إلا إيجاب تحري الصواب في أمرها وليس ذلك من القياس في شيء‏.‏

واستدل ابن سريج على إثبات القياس بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏ قالوا أولوا الأمر هم العلماء والاستنباط هو القياس ويجاب عنه بأن الاستنباط هو استخراج الدليل على المدلول بالنظر فيما يفيده من العموم أو الخصوص أو الإطلاق أو التقيد أو الاجمال أو التبيين في نفس النصوص أو نحو ذلك مما يكون طريقا إلى استخراج الدليل منه ولو سلمنا اندراج القياس تحت مسمى الاستنباط لكان ذلك مخصوصا بالقياس المنصوص على علته وقياس الفحوى ونحوه لا بما ملحقا بمسلك من مسالك العلة التي هي محض رأي لم يدل عليها دليل من الشرع فإن ذلك ليس من الاستنباط من الشرع بما أذن الله له بل من الاستنباط بما لم يأذن الله به‏.‏

واستدل أيضا بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها‏}‏ الآية قال لأن القياس تشبيه الشيء فما جاز من فعل من لا يخفى عليه خافية فهو ممن لا يخلو من الجهالة والنقص أجوز وذلك من فعل من لا يخفى عليه خافية لأننا نعلم أنه صحيح من فعل لا يخلو من الجهالة والنقص لأنا لا نقطع بصحته بل ولا نظن ذلك لما في فاعله من الجهالة والنقص‏.‏

واستدل غيره بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة‏}‏ ويجاب عنه بمنع كون هذه الآية تدل على المطلوب لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام وغاية ما فيها الاستدلال بالأثر اللاحق وكون المؤثر فيهما واحدا وذلك غير القياس الشرعي الذي هو إدراج فرع تحت أصل لعلة جامعة بينهما‏.‏

واستدل ابن تيمية على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان‏}‏ وتقريره أن العدل هو التسوية والقياس هو التسوية بين مثلين في الحكم فيتناوله عموم الآية ويجاب عنه بمنع كون الآية دليلا على المطلوب بوجه من الوجوه ولو سلمنا لكان ذلك في الأقيسة التي قام الدليل على نفي الفارق فيها فإنه لا تسوية إلا في الأمور المتوازنة ولا توازن إلا عند القطع بنفي الفارق لا في الأقيسة التي هي شعبة من شعب الرأي ونوع من أنواع الظنون الزائفة وخصلة من خصال الخيالات المختلة‏.‏

وإذا عرفت الكلام على ما استدلوا به من الكتاب العزيز لإثبات القياس فاعلم أنهم قد استدلوا لإثباته من السنة بقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة قال حدثنا ناس من أصحاب معاذ عن معاذ قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال‏:‏ «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله قال اجتهد رأيي ولا آلو قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله» والكلام في إسناد هذا الحديث يطول وقد قيل إنه مما تلقى بالقبول وأجيب عنه بأن اجتهاد الرأي هو عبارة عن استفراغ الجهد في الطلب للحكم من النصوص الخفية ورد بأنه إنما قال أجتهد رأيي بعد عدم وجوده لذلك الحكم في الكتاب والسنة وما دلت عليه النصوص الخفية لا يجوز أن يقال أنه غير موجود في الكتاب والسنة‏.‏

وأجيب عن هذا الرد بأن القياس عند القائلين به مفهوم من الكتاب والسنة فلابد من حمل الاجتهاد في الرأي على ما عدا القياس فلا يكون الحديث حجة لإثبات واجتهاد الرأي كما يكون باستخراج الدليل من الكتاب والسنة ويكون بالتمسك بالبراءة الأصلية أو بأصالة الإباحة في الأشياء أو في الخطر على اختلاف الأقوال في ذلك أو التمسك بالمصالح أو التمسك بالاحتياط وعلى تسليم دخول القياس في اجتهاد الرأي فليس المراد كل قياس بل المراد القياسات التي يسوغ العمل بها والرجوع إليها كالقياس الذي علته منصوصة والقياس الذي قطع فيه بنفي الفارق في الدليل الذي يدل على الأخذ بتلك القياسات المبنية على تلك المسالك التي ليس فيها إلا مجرد الخيالات المختلفة والشبه الباطلة وأيضا فعلى التسليم لا دلالة للحديث إلا على العمل بالقياس في أيام النبوة لأن الشريعة إذ ذاك لم تكمل فيمكن عدم وجدان الدليل في الكتاب‏.‏

والسنة وأما بعد النبوة فقد كمل الشرع لقوله‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ ولا معنى للإكمال إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه أهل الشرع إما بالنص على كل فرد أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة ومما يؤيد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما فرطنا في الكتاب من شيء‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏}‏‏.‏

واستدلوا أيضا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من القياسات كقوله‏:‏ «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ عنه‏؟‏ قالت نعم قال فدين الله أحق أن يقضي» وقوله لرجل سأله‏:‏ «فقال أيقضي أحدنا شهوته ويؤجر عليها فقال أرأيت لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر قال نعم قال فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر وقال لمن أنكر ولده الذي جاءت به امرأته أسود هل لك من أبل قال نعم قال فما ألوانها قال حمر قال فهل فيها من أورق قال نعم قال فمن اين قال لعله نزعه عرق قال وهذا لعله نزعه عرق وقال لعمر وقد قبل امرأته وهو صائم أرأيت لو تمضمضت بماء وقال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وهذه الأحاديث ثابتة في دواوين الإسلام وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم قياسات كثيرة حتى صنف الناصح الحنبلي جزءا في أقيسته صلى الله عليه وسلم ويجاب عن ذلك بأن هذه الأقيسة صادرة عن الشارع المعصوم الذي يقول الله سبحانه فيما جاءنا به عنه ‏{‏إن هو إلا وحي يوحى‏}‏ ويقول في وجوب اتباعه ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏ وذلك خارج عن محل النزاع فإن القياس الذي كلامنا فيه هو قياس من لم يثبت له العصمة ولا وجب اتباعه ولا كان كلامه وحيا بل من جهة نفسه الأمارة وبعقله المغلوب بالخطأ وقد قدمنا أنه قد وقع الاتفاق على قيام الحجة بالقياسات الصادرة عنه صلى الله عليه وسلم‏.‏

واستدلوا أيضا بإجماع الصحابة على القياس قال ابن عقيل الحنبلي وقد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله وهو قطعي وقال الصفي الهندي دليل الإجماع هو المعول عليه لجماهير المحققين من الأصوليين وقال الرازي في المحصول مسلك الإجماع هو الذي عول جمهور الأصوليين‏.‏

وقال ابن دقيق العيد عندي أن المعتمد اشتهار العمل بالقياس في أقطار الأرض شرقا وغربا قرنا بعد قرن عند جمهور الأمة إلا عند شذوذ متأخرين قال وهذا أقوى الأدلة ويجاب عنه بمنع ثبوت هذا الإجماع فإن المحتجين بذلك إنما جاؤونا بروايات عن أفراد من الصحابة محصورين في غاية القلة فكيف يكون ذلك إجماعا لجميعهم مع تفرقهم في الأقطار واختلافهم في كثير من المسائل ورد بعضهم على بعض وإنكار بعضهم لما قاله البعض كما ذلك معروف وبيانه أنهم اختلفوا في الجد مع الاخوة على أقوال معروفة وإنكار بعضهم على بعض وكذلك اختلفوا في مسألة زوج وأم وإخوة لأم وإخوة لأب وأم وأنكر بعضهم على بعض‏.‏

وكذلك اختلفوا في مسألة الخلع وهكذا وقع الانكار من جماعة من الصحابة على من عمل بالرأي منهم والقياس إن كان منه فظاهر وإن لم يكن منه فقد أنكره كما في هذه المسائل التي ذكرناها ولو سلمنا لكان ذلك الإجماع إنما هو على القياسات التي وقع النص على علتها والتي قطع فيها بنفي الفارق فما الدليل على أنهم قالوا بجميع أنواع القياس الذي اعتبره كثير من الأصوليين أثبتوه بمسالك تنقطع فيها أعناق الإبل وتسافر فيها الأذهان حتى تبلغ إلى ما ليس بشيء وتتغلغل فيها العقول حتى تأتي بما ليس من الشرع في ورد ولا صدر ولا من الشريعة السمحة السهلة في قبيل ولا دبير وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «تركتكم على الواضحة ليلها كنهارها» وجاءت نصوص الكتاب العزيز بما قدمنا من إكمال الدين وبما يفيد هذا المعنى ويصحح دلالته ويؤيد براهينه وإذا عرفت ما حررناه وتقرر لديك جميع ما قررناه فاعلم أن القياس المأخوذ به هو ما وقع النص على علته وما قطع فيه بنفي الفارق وما كان من باب فحوى الخطاب أو لحن الخطاب على إصطلاح من يسمى ذلك قياسا وقد قدمنا أنه من مفهوم الموافقة‏.‏

ثم اعلم أن نفاة القياس لم يقولوا بإهدار كل ما يسمى قياسا وإن كان منصوصا على علته أو مقطوعا فيه بنفي الفارق بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولا عليه بدليل الأصل مشمولا به مندرجا تحته وبهذا يهون عليك الخطب ويصغر عندك ما استعظموه ويقرب لديك ما بعدوه لأن الخلاف في هذا النوع الخاص صار لفظيا وهو من حيث المعنى متفق على الأخذ به والعمل عليه واختلاف طريقة العمل لا يستلزم الاختلاف المعنوي لا عقلا ولا شرعا ولا عرفا وقد قدمنا لك أن ما جاءوا به من الأدلة العقلية لا تقوم الحجة بشيء منها ولا تستحق تطويل ذيول البحث بذكرها وبيان ذلك أن أنهض ما قالوه في ذلك أن النصوص لا تفي بالأحكام فإنها متناهية والحوادث غير متناهية ويجاب عن هذا بما قدمنا من أخباره عز وجل لهذه الأمة بأنه قد أكمل لها دينها وبما اخبرها رسوله صلى الله عليه وسلم من أنه قد تركها على الواضحة التي ليلها كنهارها، ثم لا يخفى على ذي لب صحيح وفهم صالح أن في عمومات الكتاب والسنة ومطلقاتهما وخصوص نصوصهما ما يفي بكل حادثة تحدث ويقوم بيان كل نازلة تنزل عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ في أركان القياس

وهي أربعة‏:‏ الأصل والفرع والعلة والحكم ولابد من هذه الأربعة الأركان في كل قياس ومنهم من ترك التصريح بالحكم وذهب الجمهور إلى أنه لا يصح القياس إلا بعد التصريح به قال ابن السمعاني ذهب بعضهم إلى جواز القياس بغير أصل قال وهو من خلط الاجتهاد بالقياس والصحيح أنه لابد من أصل لفروع لا تتفرع إلا عن أصول انتهى‏.‏

والأصل يطلق على أمور‏:‏ منها ما يقتضي العلم بغيره ومنها ما لا يصح العلم بالمعنى إلا به ومنها الذي يعتبر به ما سواه ومنها الذي يقع القياس عليه وهو المراد هنا وقد وقع الخلاف فيه فقيل هو النص الدال على ثبوت الحكم في محل الوفاق وبه قال القاضي أبو بكر والمعتزلة وقال الفقهاء هو محل الحكم المشبه به قال ابن السمعاني وهذا هو الصحيح قال الفخر الرازي الأصل هو الحكم الثابت في محل الوفاق باعتبار تفرع العلة عليه وقال جماعة منهم ابن برهان إن هذا النزاع لفظي يرجع إلى الاصطلاح فلا مشاحة فيه أو إلى اللغة فهي تجوز إطلاقه على ما ذكر وقيل بل يرجع إلى تحقيق المراد بالأصل وهو يطلق تارة على الغالب وتارة على الوضع اللغوي كقولهم الأصل عدم الاشتراك وتارة على إرادة التعبد الذي لا يعقل معناه كقولهم خروج النجاسة من محل وإيجاب الطهارة في محل آخر على خلاف الأصل قال الآمدي يطلق الأصل على ما يتفرع عليه غيره وعلى ما يعرف بنفسه ولم يبين عليه غيره كقولنا تحريم الربا في النقدين أصل وهذا منشأ الخلاف في أن الأصل تحريم النبيذ أو النص أو الحكم قال واتفقوا على ان العلة ليست أصلا انتهى‏.‏

وعلى الجملة إن الفقهاء يسمون محل الوفاق أصلا ومحل الخلاف فرعا ولا مشاحة في الاصطلاحات ولا يتعلق بتطويل البحث في هذا كثير فائدة فالأصل هو المشبه به ولا يكون ذلك إلا لمحل الحكم لا لنفس الحكم ولا لدليله والفرع هو المشبه لا لحكمه والعلة هي الوصف الجامع بين الأصل والفرع والحكم هو ثمرة القياس والمراد به ما ثبت للفرع بعد ثبوته لأصله‏.‏

‏[‏شروط القياس المعتبرة في الأصل‏]‏

ولا يكون القياس صحيحا إلا بشروط اثني عشر لابد من اعتبارها في الأصل‏.‏

الأول‏:‏ أن يكون الحكم الذي أريد تعديته إلى الفرع ثابتا في الأصل فإنه لو لم يكن ثابتا فيه بأن لم يشرع فيه حكم ابتداء أو شرع ونسخ لم يمكن بناء الفرع عليه‏.‏

الثاني‏:‏ ان يكون الحكم في الأصل شرعيا فلو كان عقليا أو لغويا لم يصح القياس عليه لأن بحثنا إنما هو في القياس الشرعي واختلفوا هل يثبت القياس على النفس الأصلي وهو ما كان قبل الشرع فمن قال إن نفي الحكم الشرعي جوز القياس عليه ومن قال إنه ليس بحكم شرعي لم يجوز القياس عليه‏.‏

الثالث‏:‏ أن يكون الطريق إلى معرفته سمعية لأن ما لم تكن طريقة سمعية لا يكون حكما شرعيا وهذا من ينفي التحسين والتقبيح العقليين لا عند من يثبتهما‏.‏

الرابع‏:‏ أن يكون الحكم ثابتا بالنص وهو الكتاب أو السنة وهل يجوز القياس على الحكم الثابت بمفهوم الموافقة أو المخالفة قال الزركشي لم يتعرضوا له ويتجه أن يقال أن قلنا أن حكمهما النطق فواضح وأن قلنا كالقياس فيلتحقان به انتهى والظاهر أنه يجوز القياس عليهما عند من أثبتهما لأنه يثبت بهما الأحكام الشرعية كما يثبتهما بالمنطوق وأما ما ثبت بالإجماع ففيه وجهان وقال الشيخ أبو اسحاق الشيرازي وابن السمعاني اصحهما الجواز وحكاه ابن برهان عن جمهور أصحاب الشافعي والثاني عدم الجواز ما لم يعرف النص الذي أجمعوا لأجله قال ابن السمعاني وهذا ليس بصحيح لأن الاجماع أصل في إثبات الأحكام كالنص فإذا جاز القياس على الثابت بالنص جاز علىالثابت بالإجماع‏.‏

الخامس‏:‏ أن لا يكون اصل المقيس عليه فرعا لأصل آخر وإليه ذهب الجمهور وخالف في ذلك بعض الحنابلة والمعتزلة فأجازوه واحتج الجمهور على المنع بأن العلة الجامعة بين القياسين إن اتحدت كان ذكر الأصل الثاني تطويلا بلا فائده فيستغني عنه بقياس الفرع الثاني على الأصل الأول وإن لم ينعقد القياس الثاني بعدم اشتراك الأصل والفرع في علة الحكم وقسم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي هذه المسألة إلى قسمين‏:‏ أحدهما أن يستنبط من الثابت بالقياس نفس المعنى الذي ثبت به ويقاس عليه غيره قال وهذا لا خلاف في جوازه والثاني أن يستنبط منه معنى غير المعنى الذي قيس به على غيره ويقاس غيره عليه قال وهذا فيه وجهان‏:‏ أحدهما وبه قال أبو عبد الله البصري الجواز الثاني وبه قال الكرخي المنع وهو الذي يصح الآن لأنه يؤدي إلى اثبات حكم في الفرع بغير علة الأصل وذلك لا يجوز وكذا صححه في القواطع ولم يذكر الغزالي غيره‏.‏

السادس‏:‏ أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملا له خرج عن كونه فرعا وكان القياس ضائعا لخلوه عن الفائدة بالاستغناء عنه بدليل الأصل ولأنه ليكون جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا أولى من العكس‏.‏

السابع‏:‏ أن يكون الحكم في الأصل متفقا عليه لأنه لو كان مختلفا فيه احتيج إلى إثباته أولا وجوز جماعة القياس على الأصل المختلف فيه لأن القياس في نفسه لا يشترط الإتفاق عليه في جواز التمسك به فسقوط ذلك في ركن من أركانه أولى واختلفوا في كيفية الإتفاق على الأصل فشرط بعضهم أن يتفق الخصمان فقط لينضبط فائدة المناظرة وشرط آخرون أن يتفق عليه الأمة قال الزركشي والصحيح الأول واختار في المنتهى أن المعترض إن كان مقلدا لم يشترط الإجماع إذ ليس له منع ما ثبت مذهبا له وإن كان مجتهدا اشترط الإجماع لأنه ليس مقتديا بإمام فإذا لم يكن الحكم مجمعا عليه ولا منصوصا عليه جاز أن يمنعه‏.‏

الثامن‏:‏ أن لا يكون حكم الأصل ذا قياس مركب وذلك إذا اتفقا على إثبات الحكم في الأصل ولكنه معلل عند أحدهما بعلة أخرى يصلح كل منهما أن يكون علة وهذا يقال له مركب الأصل لاختلافهم في نفس الوصف أو لكن منع أحدهما وجودها في الفرع وهذا يقال له مركب الوصف لاختلافهم في نفس الوصف هل له وجود في الأصل أم لا وكلام الصفي الهندي يقتضي تخصيص القياس المركب بالأول وخالفه الآمدي وابن الحاجب وغيرهما فجعلوه متناولا للقسمين وقد اختلف في اعتبار هذا الشرط والجمهور على اعتبار وخالفهم جماعة فلم يعتبروه وقد طول الأصوليون الكلام على هذا الشرط بما لا طائل تحته‏.‏

التاسع‏:‏ أن لا نكون متعبدين في ذلك الحكم بالقطع فان تعبدنا فيه بالقطع لم يجز فيه القياس لأنه لا يفيد إلا الظن وقد ضعف ابن النباري القول بالمنع وقال بل مع تعبدنا فيه بالعلم جاز أن يثبت بالقياس الذي يفيده وقد قسم المحققون القياس إلى ما يفيد العلم وإلى ما لا يفيده وقال ابن دقيق العيد في شرح العنوان لعل هذا الشرط مبني على أن دليل الأصل وإن كان قطعيا وعلمنا العلة ووجودها في الفرع قطعا فنفس الإلحاق وإثبات مثل حكم الأصل للفرع ليس بقطعي وقد تقدم ابن دقيق العيد إلى مثل هذا الفخر الرازي‏.‏

العاشر‏:‏ أن لا يكون معدولا به عن قاعدة القياس كشهادة خزيمة وعدد الركعات ومقادير الحدود وما يشابه ذلك لأن إثبات للحكم مع منافيه وهذا هو معنى قول الفقهاء الخارج عن القياس عليه وممن ذكر هذا الشرط الفخر الرازي والآمدي وابن الحاجب وغيرهم وأطلق ابن برهان أن مذهب أصحاب الشافعي جواز القياس على ما عدل به عن سنن القياس وأما الحنفية وغيرهم فمنعوه وكذلك منع منه الكرخي بإحدى خلال‏:‏ إحداها أن يكون ما ورد على خلاف الأصول قد نص على علته ثانيها أن تكون الأمة مجمعة على تعليل ما ورد به الخبر وإن اختلفوا في علته ثالثهما أن يكون الحكم الذي ورد به الخبر موافقا للقياس على بعض الأصول وإن كان مخالفا للقياس على أصل آخر‏.‏

الحادي عشر‏:‏ أن لا يكون حكم الأصل مغلظا على خلاف في ذلك‏.‏

الثاني عشر‏:‏ أن لا يكون الحكم في الفرع ثابتا قبل الأصل لأن الحكم المستفاد متأخر عن المستفاد منه بالضرورة فلو لزم اجتماع النقيضين أو الضدين وهو محال هذا حاصل ما ذكروه من الشروط المعتبرة في الأصل وقد ذكر بعض أهل الأصول شروطا والحق عدم اعتبارها فمنها أن يكون الأصل قد انعقد الإجماع على أن حكمه معلل ذكر ذلك بشر المريسي والشريف المرتضي ومنها أن يشرط في الأصل أن لا يكون غير محصور بالعدد قال ذلك جماعة وخالفهم الجمهور ومنها الاتفاق على وجود العلة في الأصل قاله البعض وخالفهم الجمهور‏.‏

واعلم أن العلة ركن من أركان القياس كما تقدم فلا يصح بدونها لأنها الجامعة بين الأصل والفرع قال ابن فورك من الناس من اقتصر على الشبه ومنع القول بالعلة وقال ابن السمعاني ذهب بعض القياسيين من الحنفية وغيرهم إلى صحة القياس من غير علة إذ لاح بعض الشبه والحق ما ذهب إليه الجمهور من أنها لابد منها في كل قياس‏.‏

‏[‏العلة ومعناها‏]‏

وهي في اللغة اسم لما يتغير الشيء بحصوله أخذا من العلة التي هي المرض لأن تأثيرها في الحكم كتأثير العلة في ذات المريض يقال أعتل فلان إذا حال عن الصحة إلى السقم وقيل إنها مأخوذة من العلل بعد النهل وهو معاودة الشرب مرة بعد مرة لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر مرة بعد مرة وأما في الإصطلاح فاختلفوا فيها على أقوال‏:‏

الأول‏:‏ أنها المعرفة للحكم بأن جعلت علما على الحكم إن وجد المعنى وجد الحكم قاله الصيرفي وأبو زيد من الحنفية وحكاه سليم الرازي في التقريب عن بعض الفقهاء واختاره صاحب المحصول المنهاج‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الموجبة للحكم بذاتها لا يجعل الله وهو قول المعتزلة بناء على قاعدتهم في التحسين والتقبيح العقليين والعلة وصف ذاتي لا يتوقف على جعل جاعل‏.‏

الثالث‏:‏ أنها الموجبة للحكم على معنى أن الشارع جعلها موجبة بذاتها وبه قال الغزالي وسليم الرازي قال الصفي الهندي وهو قريب لا بأس به‏.‏

الرابع‏:‏ أنها الموجبة بالعادة واختاره الفخر الرازي‏.‏

الخامس‏:‏ أنها الباعث على التشريع بمعنى أنه لابد أن يكون الوصف مشتملا على مصلحة صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم‏.‏

السادس‏:‏ أنها التي يعلم الله صلاح المتعبدين بالحكم لأجلها وهو اختيار الرازي وابن الحاجب‏.‏

السابع‏:‏ أنها المعنى الذي كان الحكم على ما كان عليه لأجلها وللعلة أسماء تختلف باختلاف الإصطلاحات فيقال لها السبب والأمارة والداعي والمستدعي والباعث والحامل والمناط والدليل والمقتضي والموجب والمؤثر وقد ذهب المحققون إلى أنه لابد من دليل على العلة ومنهم من قال إنها تحتاج إلى دليلين يعلم بأحدهما أنها علة وبالآخر أنها صحيحة وقال ابن فورك من أصحابنا من قال يعلم صحة العلة بوجود الحكم بوجودها وارتفاعه بارتفاعها‏.‏

‏[‏شروط العلة‏]‏

ولها شروط أربعة وعشرون‏:‏

الأول‏:‏ أن تكون مؤثرة في الحكم فإن لم تؤثر فيه لم يجز أن تكون علة هكذا قال جماعة من أهل الأصول ومرادهم بالتأثير المناسبة قال القاضي في التقريب معنى كون العلة مؤثرة في الحكم هو أن يغلب على ظن المجتهد أن الحكم حاصل عند ثبوتها لأجلها دون شيء سواها وقيل معناه أنها جالبة للحكم ومقتضية له‏.‏

الثاني‏:‏ أن تكون وصفا ضابطا بأن يكون تأثيرها لحكمة مقصودة للشارع لا حكمة مجردة لخفائها فلا يظهر إلحاق غيرها بها وهل يجوز كونها نفس الحكم وهي الحاجة إلى جلب مصلحة أو دفع مفسدة قال الرازي في المحصول يجوز وقال غيره يمتنع وقال آخرون إن كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها جاز التعليل بها واختاره الآمدي والصفي الهندي واتفقوا على جواز التعليل بالوصف المشتمل عليها أي مظنتها بدلا عنها ما لم يعارضه قياس‏.‏

الثالث‏:‏ أن تكون ظاهرة جلية والألم يمكن إثبات الحكم بها في الفرع على تقدير أن تكون أخفى منه أو مساويا له في الخفاء كذا ذكره الآمدي في جدله‏.‏

الرابع‏:‏ أن تكون سالمة بحيث لا يردها نص ولا إجماع‏.‏

الخامس‏:‏ أن لا يعارضها من العلل ما هو أقوى منها ووجه ذلك أن الأقوى أحق بالحكم كما أن النص أحق بالحكم من القياس‏.‏

السادس‏:‏ أن تكون مطرودة أي كلما وجدت وجد الحكم لتسلم من النقض والكسر فإن عارضها نقض أو كسر بطلت‏.‏

السابع‏:‏ أن لا تكون عدما في الحكم الثبوتي أي لا يعلل الحكم الوجود بالوصف العدمي قاله جماعة وذهب الأكثرون إلى جوازه قال المانعون لو كان العدم علة للحكم الثبوتي لكان مناسبا أو مظنة واللازم باطل وأجيب بمنع بطلان اللازم‏.‏

الثامن‏:‏ أن لا تكون العلة المعتدية هي المحل أو جزء منه لأن ذلك يمنع من تعديتها‏.‏

التاسع‏:‏ أن ينتفي الحكم بانتفاء العلة والمراد انتفاء العلم أو الظن به إذ لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول‏.‏

العاشر‏:‏ أن تكون أوصافها مسلمة أو مدلولا عليها كذا قال الأستاذ أبو منصور‏.‏

الحادي عشر‏:‏ أن يكون الأصل المقيس عليه معللا بالعلة التي يعلق عليها الحكم في الفرع بنص أو إجماع‏.‏

الثاني عشر‏:‏ أن لا تكون موجبة للفرع حكما وللأصل حكما آخر غيره‏.‏

الثالث عشر‏:‏ أن لا توجب ضدين لأنها حينئذ تكون شاهدة الحكمين متضادين قاله الأستاذ أبو منصور‏.‏

الرابع عشر‏:‏ أن لا يتأخر ثبوتها عن ثبوت حكم الأصل خلافا لقوم‏.‏

الخامس عشر‏:‏ أن يكون الوصف معينا لأن رد الفرع إليها لا يصح إلا بهذه الواسطة‏.‏

السادس عشر‏:‏ أن يكون طريق إثباتها شرعيا كالحكم ذكره الآمدي في جدله‏.‏

السابع عشر‏:‏ أن لا يكون وصفا مقدرا قال الهندي ذهب الأكثرون إلى أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة خلافا للأقلين من المتأخرين‏.‏

الثامن عشر‏:‏ إن كانت مستنبطة فالشرط أن ترجع على الأصل بإبطاله أو أبطال بعضه لئلا يفضي إلى ترك الراجح إلى المرجوح إذ الظن المستفاد من النص أقوى من الظن المستفاد من الاستنباط لأنه فرع له والفرع لا يرجع على إبطال أصله وإلا لزم أن يرجع إلى نفسه بالابطال‏.‏

التاسع عشر‏:‏ إن كانت مستنبطة فلا شرط أن لا تعارض بمعارض مناف موجود في الأصل‏.‏

العشرون‏:‏ إن كانت مستنبطة فالشرط أن لا تتضمن زيادة على النص أي حكما غير ما أثبته النص‏.‏

الحادي والعشرون‏:‏ أن لا تكون معارضة لعلة أخرى تقتضي نقيض حكمها‏.‏

الثاني والعشرون‏:‏ إذا كان الأصل فيه شرط فلا يجوز أن تكون العلة موجبة لإزالة ذلك الشرط‏.‏

الثالث والعشرون‏:‏ إن لا يكون الدليل الدال عليها متناولا لحكم الفرع لا بعمومة ولا بخصوصه للاستغناء حينئذ عن القياس‏.‏

الرابع والعشرون‏:‏ أن لا تكون مؤيدة لقياس أصل منصوص عليه بالاثبات على أصل منصوص عليه بالنفي فهذه شروط العلة وقد ذكرت لها شروط غير معتبرة على الأصح منها ما شرطه فيها الحنيفة وأبو عبد الله البصري وهو تعدي العلة من الأصل إلى غيره فلو وقفت على حكم النص لم تؤثر في غيره وهذا يرجع إلى التعليل بالعلة القاصرة وقد وقع الاتفاق على أنها إذا كانت منصوصة أو مجمعا عليها صح التعليل بها حكى ذلك القاضي أبو بكر وابن برهان والصفي الهندي‏.‏

وخالفهم القاضي عبد الوهاب فنقل عن قوم أنه لا يصح التعليل بها على الإطلاق سواء كانت منصوصة أو مستنبطة قال وهذا قول اكثر أهل العراق انتهى وأما إذ كانت العلة القاصرة مستنبطة فهي محل الخلاف فقال أبو بكر القفال بالمنع وبمثله قال ابن السمعاني ونقله إمام الحرمين عن الحليمي وقال القاضي أبو بكر وجمهور أصحاب الشافعي بالجواز قال القاضي عبد الوهاب‏:‏ هو قول جميع أصحابنا وأصحاب الشافعي وحكاه الآمدي عن أحمد‏.‏

قال ابن برهان في الوجيز كان الأستاذ أبو أسحاق من الغلاة في تصحيح العلة القاصرة ويقول هي أولى من المتعدية واحتج بأن وقوفها يقتضي نفي الحكم عن الأصل في النفي كما كان تعديها مؤثرا في الاثبات وهذا احتجاج فاسد واستدلال باطل ومنها أن يكون وصفها حكما شرعيا عند قوم لأنه معلول فكيف يكون علة والمختار جواز تعليل الحكم الشرعي بالوصف الشرعي ومنها أن تكون مستنبطة من اصل مقطوع بحكمه عند قوم والمختار عدم اعتبار ذلك بل يكتفي بالظن ومنها القطع بوجود العلة في الفرع عند قوم منهم البزدوي والمختار الاكتفاء بالظن ومنها أن لا تكون مخالفة لمذهب صحابي وذلك عند من يقول بحجية قول الصحابي لا عند الجمهور‏.‏

وقد اختلفوا في جواز تعدد العلل مع اتحاد الحكم فإن كان الاتحاد بالنوع مع الاختلاف بالشخص كتعليل إباحة قتل زيد بردته وقتل عمرو بالقصاص وقتل خالد بالزنا مع الاحصان فقد اتفقوا على الجواز وممن نقل الاتفاق على ذلك الأستاذ أبو منصور البغدادي والآمدي والصفي الهندي وأما إذا كان الاتحاد بالشخص فقيل لا خلاف في امتناعه بعلل عقلية وحكى القاضي الخلاف في ذلك فقال ثم اختلفوا إذا وجب الحكم العقلي بعلتين فقيل لا يرتفع إلا بارتفاعهما جميعا وقيل يرتفع بارتفاع إحدهما وأما تعدد العلل الشرعية مع الاتحاد في الشخص كتعليل قتل زيد بكونه من يجب عليه فيه القصاص وزنى مع الاحصان فإن كل واحد منهما يوجب القتل بمجرد فهل يصح تعليل إباحة دمه بهما معا أم لا‏؟‏ اختلفوا في ذلك على مذاهب‏:‏

الأول‏:‏ المنع مطلقا منصوصة كانت أو مستنبطة حكاه القاضي عبد الوهاب عن متقدمي أصحابهم وجزم به الصيرفي واختاره الآمدي ونقله القاضي وإمام الحرمين‏.‏

الثاني‏:‏ الجواز مطلقا وإليه ذهب الجمهور كما حكاه القاضي في التقريب قال وبهذا نقول لأن العلل علامات وإمارات على الأحكام لا موجبة لها فلا يستحيل ذلك قال ابن برهان في الوجيز أنه الذي استقر عليه رأي إمام الحرمين‏.‏

الثالث‏:‏ الجواز في المنصوصة دون المستنبطة وإليه ذهب أبو بكر بن فورك والفخر الرازي وأتباعه وذكر إمام الحرمين أن القاضي يميل إليه وكلام إمام الحرمين هذا هو الذي اعتمده ابن الحاجب في نقل هذا المذهب عن القاضي كما صرح به مختصر المنتهى ولكن النقل عن القاضي مختلف كما عرفته‏.‏

الرابع‏:‏ الجواز في المستنبطة دون المنصوصة حكاه ابن الحاجب في مختصر المنتهى وابن المنير في شرحه للبرهان وهو قول غريب والحق ما ذهب إليه الجمهور من الجواز وكما ذهبوا إلى الجواز فقد ذهبوا أيضا إلى الوقوع ولم يمنع ذلك عقل ولا شرع‏.‏

‏[‏شروط الفرع‏]‏

وأما ما يشترط في الفرع فأمور أربعة‏:‏ أحدها مساواة علته لعلة الأصل والثاني مساواة حكمه لحكم الأصل والثالث أن لا يكون منصوصا عليه والرابع أن لا يكون متقدما على حكم الأصل‏.‏